وقد جاء هذا الحديث من طريقه أيضًا، أخرجه مسلم من رواية أبي إسحاق السَّبيعيّ عنه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعًا مرفوعًا، وغلط من جعلهما واحدًا، ورواه عن أبي هريرة أيضًا سعيدُ بن مَرْجَانة، وأبو صالح عند مسلم وسعيد المَقْبَرِيّ وعطاء مولى أم صُبَيَّة، بالمهملة مصغرًا، وأبو جعفر المدني ونافع بن جُبير بن مُطْعِم، كلهم عند النَّسائيّ، وفي الباب عن عليّ وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وعمرو بن عَنْبَسةَ عند أحمد، وعن جبير بن مطعم ورِفاعة الجُهَنىّ عند النَّسائيّ، وعن أبي الدَّرْدَاءْ وعُبادة بن الصامت وأبي الخطاب غير منسوب عند الطبرانيّ، وعن عُقبة بن عامر وجابر، وجَدّ عبد الحميد بن سَلَمة عند الدارقطنيّ في كتاب السنة. وسأذكر ما في رواياتهم من فائدةٍ زائدة.
وقوله: "عن أبي سلمة" إلخ في رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو عبد الله الأغر صاحب أبي هريرة، أن أبا هريرة أخبرهما، وقوله: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" استدل به من أثبت الجهة وقال: هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور؛ لأن القول بذلك يفضي إلى التحيُّز، تعالى الله عن ذلك.
وقد اختلف في معنى النزول على أقوال، فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم. ومنه مَنْ أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملةً، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة، والعجب أنهم أَوّلوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث، إما جهلًا، وإما عنادًا. ومنهم مَنْ أجراه على ما ورد، مؤمنًا به على طريق الإجمال، منزهاً لله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف. ونقله البيهقيّ وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم، ومنهم مَنْ أوَّله على وجه يليق، مستعملٍ في كلام العرب، صارفًا له عن ظاهره المستحيل على الله تعالى، الواجبه تنزيهه عنه؛ لأن النزول انتقال من مكان إلى مكان، يفتقر إلى ثلاثة أجسام: عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل، وهذا لا يجوز على الله تعالى. ومنهم مَنْ أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف. ومنهم مَنْ فضّل بين ما يكون تأويله قريبًا مستعملًا في كلام العرب، وبين ما يكون بعيدًا مهجورًا، فأوّل في بعض، وفوّض في بعض، وهو منقول عن مالك، وجزم به ابن دقيق العيد من المتأخرين.
قال البيهقيّ: وأسلمها الإيمان بلا كيف، والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه. ومن الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعني غير واجب، فحينئذٍ التفويض أَسْلَم. وقال ابن العربي: حكى عن المبتدعة رد هذه الأحاديث، وعن السلف إقرارها، وعن قوم تأويلها وبه أقول. فأمّا قوله: "ينزل" فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه، والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني، فإن حملته في الحديث على الحسيّ، فتلك صفة الملك المبعوث بذلك، وإنّ حملته على المعنويّ، بمعنى أنه لم يفعل ثم