وأما قول ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس؛ لأن إقامة عشرة داخلة في إقامة تسع عشرة، فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين، ففيه نظر؛ لأنه ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفتان كما مرَّ، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على مَنْ لم ينو الإِقامة، بل كان مترددًا حتى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل. ووجه الدلالة منه هو أنه لما كان الأصل في المقيم الإِتمام، فلما لم يجيء منه -صلى الله عليه وسلم- أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة، جعلها غاية للقصر. والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على مَنْ نوى الإقامة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- في أيام الحج كان جازمًا بالإقامة تلك المدة.
قلت: لم أفهم وجه الاستدلال به لمن نوى الإقامة. وقد قال في "الفتح" إن حجة الشافعي على إن مَنْ نوى إقامة أربعة أيام، يتم حديث أنس هذا. وحديث أنس ليس فيه إتمام، وإنما فيه أنه كان يقصر حتى رجع إلى المدينة، فأي دليل فيه. وقد قال أحمد بن حنبل ليس لحديث أنس وجه، إلاَّ إنه حسب أيام إقامته -صلى الله عليه وسلم- في حجته منذ دخل مكة إلى أن خرج منها، لا وجه له، إلاَّ هذا. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة، لأن هذه المواضع مواضع النسك، وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصودة بالأصالة لا يتجه سوى ذلك، كما قال أحمد. وفي الحديث الإقامة في أثناء السفر تسمّى إقامة، وإطلاق اسم البلد على ما جاورها وقرب منها؛ لأن مِنًى وعرفة ليسا من مكة، أما عرفة فَلأَنها خارج الحرم، فليست من مكة قطعًا وأمّا مِنًى ففيها احتمال، والظاهر أنها ليست من مكة إلاّ إن قلنا أن اسم مكة يشمل جميع الحرم وقد زعم الطحاوي فيما مرّ عن الشافعي من أنَّ مَنْ نوى إقامة أربعة أيامٍ يتم إنه لم يسبق إلى ذلك، مع انه هو مذهب مالك وأحمد كما مرَّ، فهذا عجيب منه. وقال العيني: وعند أصحابنا إنْ نوى أقل من خمسة عشر يومًا قصر صلاته؛ لأن المدة خمسة عشر يومًا كمدة الطهر، كما روى ابن أبي شيبة في مصنفه أن ابن عمر كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وقد قالوا: إنما يصير مقيمًا بنيّة الإقامة إذا سار ثلاثة أيام، فأما إذا لم يسر ثلاثة أيامٍ فعزم على الرجوع، أو نوى الإِقامة يصير مقيمًا، وإن كان في المفازة، كما قال فخر الإِسلام، وفي "المجتبى" لا يبطل السفر إلا بنّية الإقامة، أو دخول الوطن أو الرجوع إليه قبل الثلاث. ونية الإِقامة إنما تؤثر بخمس شرائط أحدها: ترك السّير حتى لو نوى الإقامة وهو يسير لم يصح. وثانيها: صلاحية الموضع حتى لو نوى الإقامة في برٍ أو بحرٍ أو جزيرة لم يصح، وإتحاد الموضع والمدة والاستقلال بالرأي، حتى لو نوى مَنْ كان تبعًا لغيره، كالجندي، والزوجة والرقيق والأجير، والتلميذ مع استاذه، والغريم المفلس مع صاحب الدَّين، لا تصح نيته إلا إذا نوى متبوعه ولو نوى المتبوع الإقامة ولم يعلم بها التابع فهو مسافر كالوكيل إذا عزل، وهو الأصح. وعند بعض أصحابنا يصيرون مقيمين، ويعيدون ما ادّوا في مدة علم العلم.
قد مرّوا إلاَّ يحيى، مرّ أبو معمر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرّ أنس في السادس