وأخرج الطحاوي عن عبيد الله بن مِقْسَم أنه سأل عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله فقالوا: لا تقرأ خلف الإِمام في شيء من الصلوات. ثم قال الطحاوي: فهؤلاء جماعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أجمعوا على ترك القراءة خلف الإِمام، وقد وافقهم على ذلك ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مما قدمنا ذكره. قلت: وما روي عن هؤلاء الصحابة له حكم المرفوع، إذ لا مجال للرأي في القرآن في الصلاة، فما قالوه محمول على أنهم سمعوه منه -صلى الله عليه وسلم-.
وقد روى أبو داود في حديث عبادة بن الصامت لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، أن سفيان بن عيينة أحد رواته قال: هذا لمن يصلي وحده يعني: أنه في حق من يصلي وحده، وأما المقتدي فإن قراءة الإِمام قراءة له، وكذا قال الإسماعيلي في روايته إذا كان وحده وعلى هذا لا تبقى للشافعية ومن قال بقولهم دعوى للعموم في حق المأموم، وأجابوا عن حديث أبي موسى السابق وإذا قرأ فأنصتوا، ومثله ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: إنما جعل الإِمام ليؤتم به، وزاد فيه: وإذا قرأ فانصتوا، فإن هذين الحديثين حجة صريحة في أن المقتدي لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإِمام في الجهرية بأنه لا دلالة فيما حكاه على الجمع بين الأمرين فينصت فيما عدا الفاتحة أو ينصت إذا قرأ الإِمام، ويقرأ إذا سكت. قالوا: وعلى هذا يتعين على الإِمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم لئلا يوقعه في ارتكاب النهي حيث لا ينصت إذا قرأ الإِمام قلت: وهذا الجواب يكفي من رده أن مذهبهم لا يجب فيه هذا السكوت وإنما هو مندوب عندهم، فلابد من أن يقولوا بوجوب السكوت على الإِمام أو ترك المأموم للإنصات والقراءة مع الإِمام أو تركه القراءة، وهذا كله خلاف مذهبهم.
وقد قال ابن عبد البر في التمهيد بسنده عن أحمد بن حنبل أنه صحّح الحديثين حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة. وقد قال في الفتح: كان متفطنًا للاعتراض الذي قدمناه، قد ثبت الإذن بقراءة الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاري في جزء القراءة والترمذي وابن حبّان وغيرهما عن عبادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثقلت عليه القراءة في الفجر، فلمّا فرغ قال: لعلّكم تقرؤون خلف إمامكم قلنا: نعم قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنَّسائي ومن حديث أنس عند ابن حبّان. وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: لابد من أم القرآن، ولكن من مضى كان الإِمام يسكت قدر ما يقرأ المأموم بأم القرآن. قلت: ما ذكره من قراءة المأموم في الجهرية ليس في الحديث الأول الذي ذكر دلالة عليه، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: لعلّكم تقرؤون قال على أنه لم يسمع قراءتهم ولو سمعها ما استفهمهم كما أن قوله إلا بفاتحة الكتاب ليس فيه إذن منه في قراءتها جهرًا.
وقد أخرج النَّسائي وغيره عن الزهري في آخر حديث الباب فصاعدًا واستدل به على وجوب قدر زائد على الفاتحة، وتعقب بأنه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة.