وقال الواحديّ: إنها رؤية اليقظة ليلًا فقط، ومن قال بالثاني، فمن قوله أُرِيها ليلة الإسراء، والإسراء إنما كان في اليقظة؛ لأنه لو كان منامًا ما كذبه الكفّار فيه، ولا فيما هو أبعد منه، كما مرَّ تقريره. وإذا كان ذلك في اليقظة، وكان المعراج في تلك الليلة، تعينَ أن يكون في اليقظة أيضًا إذ لم يقل أحد أنه نام لما وصل إلى بيت المقدس، ثم عرج به وهو نائم، وإذا كان في اليقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن فقا {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]. ورؤيا العين فقال {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17، 18].
وروى الطبرانيّ في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه مرتين. وأخرج النَّسائيّ بإسناد صحيح، وصححه الحاكم من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد؟ وفي رواية "والنظر". وأخرجه ابن خُزيمة بلفظ "إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة ... الحديث"، وأخرج ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس "هل رأى محمد ربه؟ " فأرسل إليه "أن نعم". وأخرج مسلم عن ابن عباس في قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 11، 13]. قال: رأى ربه بفؤاده مرتين، وله عن عطاء عن ابن عباس قال: رآه بقلبه.
وأصرح من هذا ما أخرجه ابن مردويه عن عطاء أيضًا عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعينه، إنما رآه بقلبه، وإذا تقرر هذا ظهر أن مرادَ ابن عباس هنا برؤية العين المذكورة، جميعُ ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة من الأشياء التي مرَّ ذكرها. وفي هذا رد لمن قال المراد بالرؤيا في هذه الآية، رؤياه -صلى الله عليه وسلم-، أنه دخل المسجد الحرام المشار إليه بقوله تعالى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]. قال: هذا القائل، والمراد بقوله "فتنة للناس" ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخوله المسجد