البشر، فسماعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سماع الأصوات، ولذلك عسر علينا فهم كيفية سماع موسى عليه السلام لكلامه تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت، كما يعسر على الأَكْمَهِ كيفية إدراك البصر للألوان، وقد جعل الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام الانسلاخ من البشرية إلى حالة المَلَكِيّة في حالة الوحي، فطرة فطرهم عليها، ونزههم عن عوائق البدن، ما داموا متلبسين بها، لما ركب في غرائزهم من العصمة والاستقامة، فإذا انسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك ما يتلقونه، عاجوا على المدارك البشرية لحكمة التبليغ للعبادة، فتارة يكون الوحي كسماع دوي، كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه، فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه، وتارة يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلًا، فيكلمه ويعي ما يقوله، والتلقي مع الملك والرجوع إلى البشرية وفهمه ما ألقي عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر، ولذا سمي وحيًا، لأن الوحي في اللغة الإِسراع كما مر.
وفي التعبير عن الوحي في الأولى بصيغة الماضي، وفي الثانية بالمضارع لطيفة من البلاغة وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي، فتمثلت حالته الأولى بالدوري الذي هو غير كلامه، وأخبر أن الفهم والوعي يتبعه عقب انقضائه عند تصوير انفصال العبارة عن الوحي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع، وتمثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطبه ويتكلم مناسب للتعبير بالمضارع المقتضي للتجدد، وفي حالتي الوحي على الجبلة صعوبة وشدة، ولذا كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف، لأن الوحي مفارقة البشرية إلى الملكية، فيحدث شدة من المفارقة الذات ذاتها، وقد يفضي بالتدريج شيئًا فشيئًا إلى بعض السهولة بالنظر إلى ما قبله، ولذا كانت تنزل نجوم القرآن وسوره وآياته حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة.
والتعبير عن الوحي في هذا الحديث بمثل صلصلة الجرس لا ينافيه ما أخرجه أبو داود عن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: كنا نسمع عنده