قال: وكان أبو عامر في ذلك الأوان؛ قُدْوَةَ الوزراء والأعْيان. وكان كلُّ شَاعر وكاتب، بَيْنَ صِلَةٍ منه
وَرَاتب، يحضرون مجالس آدابه؛ ولا يَنْفَصِلونَ عن بابه. وكان له بباب الصَّوْمَعَة من الجامع،
مَوْضِعٌ لا يُفارقه أكثر نهاره؛ وَلاَ يخليه من نَثْر دُرره وأَزْهَاره. فبينما هو قاعدٌ فيه ليلة سبع
وعشرين من رمضان، مع جُملَة من الوزراء، والإخوان، وبهاء ذلك الزمان، وهم قد حَفُّوا به، وهو
يَخلطُ لهم الجِدَّ بالهزل؛ ولا يفرط في انبساط مستهتر، وانقباض جزل. وإذا بجارية من أعيان
المصر؛ وأهل العَفَاف في ذلك العصر، وهي في جملة من جَوَاريها؛ بين من يَسْتُرها ويُوَاريها؛ قد
جعلت تَرتَاد موضعاً لمناجاة رَبِّها؛ وتبتغي منزلا لاستغفار ذَنْبِها. وهي مع ذلك حذرة متنقبة؛ خائفة
ممن يرمقها مترقبة، وأمامها طفل لها، كأنه بدر على غصن آس؛ أو ظبي يمرح في كِناس. فما
وقعت عينها على أبي عامر ولت سريعة؛ وتولَّت وَجِلة مروعة؛ خيفة منها على نفسها أن يشبِّب بها
أو يشهرها باسمها، ويعرف بمنصبها. فلما نظر إليها ووقعت عينه عليها، وتحقق خبرها، قال قولا
فضحها به وشهرها:
وناظِرةٍ تحت طيّ القناع ... دَعَاهَا إلى الله للْخَيرِ دَاعِي
سَعَتْ بِابْنِهَا تبتغي منزلاً ... لِوَصْلِ التَّبَتُّلِ والانقِطاعِ
فَجَاءَتْ تَهَادى كمثلِ الرَّؤومِ ... تُرَاعي غَزاَلاً بأَعْلى يَفاعِ
وَجَالَتْ بأَربعِنَا جَوْلةً ... فحلّ الربيع بتلك البقاعِ