إن معنى الأخوة والحب في الله قد زرعه النبي الله صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه من خلال التربية والتعليم من المواقف، وذلك بأسلوب سهل وبسيط، فعند الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، والصحابة في شوق إلى معرفة هذا الرجل، فيا ترى هل هو أبو بكر؟ أم عمر؟ أم عثمان؟ أم علي؟ أم غيرهم من كبار الصحابة؟ لا، يقول أنس بن مالك راوي الحديث: (فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال)، وانظروا إلى وصف أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه للرجل، فهو رجل بسيط جداً، وليس معروفاً بين الصحابة، وإنما هو مجرد رجل من الأنصار كما يقول أنس، ولو كان هذا الرجل معروفاً لقال أنس: فطلع سعد بن معاذ أو سعد بن عبادة أو أسيد بن حضير وذكره باسمه، لكن هو رجل غير معروف، خرج لتوه من الوضوء ولحيته تقطر ماء، وواضع نعله في يده الشمال، والصحابة لا يرون فيه شيئاً غريباً، فهو رجل متوضئ مثلما هم يتوضئون وذاهب ليصلي مثلما هم يصلون، وليس معروفاً بين الصحابة بعمل كبير أو عمل عظيم.
قال أنس راوي الحديث: (فلما كان من الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى -وبنفس الهيئة- فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى)، وكان باستطاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم بمنتهى الوضوح ما هو العمل الذي عمله هذا الرجل وانتهى الأمر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يشوقهم إلى معرفة عمل هذا الرجل الذي أهله لأن يكون من أهل الجنة، ثم في الأخير أراد أحد الصحابة أن يعرف ما خبر وقصة هذا الرجل؟ وما الذي جعله من أهل الجنة وهو رجل بسيط لا أحد يعرفه؟ قال راوي الحديث: فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص.
يعني: أن عبد الله بن عمرو بن العاص تبع هذا الرجل ومشى خلفه وقال له: إني لاحيت أبي.
يعني: تشاجرت مع والدي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً أي: قلت: أنا لن أدخل البيت لثلاثة أيام، فأريد أن أبر بالقسم، ولا أجد مكاناً أقعد فيه، فأريد أن أقعد عندك، ولذلك قال له: فإن رأيت أن تأويني إليك حتى تمضي فعلت حتى تنقضي الثلاثة الأيام، فقال: نعم.
وأخذ الرجل الموضوع ببساطة ورحب به في بيته.
قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، يعني: أن أنساً راوي الحديث رضي الله عنه وأرضاه يحكي أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يحكي حكايته مع هذا الرجل الذي هو من أهل الجنة، والذي لا يعرفه أحد من الصحابة، فيقول أنس بن مالك يروي رواية عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه لم يره يقوم من الليل شيئاً، وإنما ينام حتى طلوع الفجر، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار، أي: استيقظ من نومه، وتقلب في فراشه ذكر الله عز وجل وكبر، أي: يذكر الله ويكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، ثم قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً يعني: كل كلامه كان خيراً.
فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، وليس المقصود هنا أن عمله ليس جيداً، فالرجل يصلي ويذكر الله عز وجل ولا يقول إلا خيراً، لكن كل الصحابة كانوا على هذه الصورة، فلماذا هذا الرجل بالذات يؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات أنه من أهل الجنة، وكان هذا الذي دعا عبد الله بن عمرو بن العاص إلى الاستغراب وعبد الله بن عمرو بن العاص كان من عباد الصحابة، كان يصوم معظم الأيام، ويقوم معظم الليالي، ويقرأ القرآن يختمه في ثلاثة أيام، فهو لم ير العمل الكبير عند هذا الرجل الأنصاري حتى جعله من أهل الجنة بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيده لذلك، فبدأ يصارحه فقال له: إني لم أتشاجر مع والدي ولكن أردت أن أعرف قصتك، يقول عبد الله: قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرار، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: احتمال أن يكون هناك عمل خفي بينك وبين الله أردت أن أعرفه فأقتدي بك، فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، أي: هذا هو كل عملي، فلا يوجد أي شيء مخفي.
وعند ذلك شعر عبد الله بن عمرو بن العاص بإحباط شديد