عندي أنَّ ما صنع هذا الفتى كان خطأ وقبل تعيين هذه الأمارة، وأنَّ مسلمي الجنِّ أولى بالتسامح مع مسلمي الإنس من كفَّار الجنِّ مع هؤلاء، وأيًّا ما كان من الإشكال فإذا جرينا على هذا الاحتمال فالحكم خاص بمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبزمان وجوده فيها، فيكون من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن أسلم له الموجودات الخفيَّة كما أسلمت لسليمان، وأنَّها كانت تتشكل في صورة الحيَّات لتسمع القرآن والهدي، وعلى هذا تقوم معارضة بينه وبين حديث أبي هريرة الآتي، ويحتمل احتمالًا ثانيًا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في غير قصة الفتى الذي طعن الحيَّة، وأنَّ أبا سعيد ظن أنَّ موت الفتى ما كان إلَّا بمثل ذلك السبب، لما رأى من شدَّة المقارنة بين موت الحية وموت الفتى، مع أنَّ الحية لم تنهشه، فظنَّ أنَّ موته كان خرقًا للعادة، فهو من عمل الجن، لكن يجوز أن سبب تلك المقارنة أنَّ ذلك الفتى لما كان مباشرًا لعمل غزوة الخندق قد أصابته جراح في يديه، فلمَّا سرى إليها سمُّ الحية حين اضطربت في رأس الرمح عمل ذلك السمُّ عمله في قلب الفتى سريعًا فخرَّ ميتًا أو مغشيًّا عليه غشيانًا أعقبه الموت، ويعضد هذا الاحتمال أنه وقع في حديث أبي سعيد من رواية ابن وهب عن مالك عند «مسلم» بلفظ: «ثمَّ قال رسول الله: إنَّ بالمدينة جنًّا» إلخ. وعلى هذا الاحتمال الثاني، فتأويل الحديث أنَّ المراد بالجنِّ ضرب من الحيات، وهو الذي يقال له: الجان، يسكن البيوت، ويجمع لفظه على جنان، كما جاء في حديث أبي لبابة في هذا الباب، وتأويل قوله: «قد أسلموا»، أي: سالموا النَّاس من النهش فنهى عن قتلها؛ إذ لا مضرة فيها، ولعلَّ فيها منافع فإنها تأكل الفأر والعقرب، ولعلَّها كانت سريعة الاختفاء إذا اعترض لها الإنسان، فإذا أوذيت لم ترجع، أو كان ذلك بدعوة من الرسول عليه الصلاة والسلام، والتي ترجع بعد الإيذاء هي الحيَّة الخبيثة الجريئة، المعبَّر عن خبثها بأنَّها شيطان.
وبهذا التأويل يتَّضح الجمع بين هذا الحديث وبين حديثي أبي لبابة وعائشة في هذا الباب، وحديث أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الحيَّات: «ما سالمناهن منذ عاديناهن، ومن يتركهن خوف شرهن، فليس منا» رواه أبو داود وأحمد.