أو لأنَّه أراد أن يعرفه الناس ويحذروا غدره، فيكون من باب ما قيل في جواز ذكر مثل ذلك في مقام الجرح والتعديل، فمقام بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه أولى بجواز ذلك.
وأما مضاحكته إيَّاه بعد أن قال فيه قوله ذلك، فقد أشكل على عائشة? وأجابها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أزال إشكالها غير أنَّ الناظرين قد بقي في نفوسهم من الإشكال ما جزموا معه، بأنَّ ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حسن لقاء الرجل إنما هو ضرورة ومداراة؛ لأنَّهم رأوا التنافي بين ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الرجل وبين ما لاقاه به باقيًا. والحقُّ أنَّ الإشكال قد ارتفع بتنبيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة وسرعة ما فهمت من ذلك. وبيان ذلك أن قوله: «بئس ابن العشيرة» خبر عن حال الرجل بما هو في الواقع؛ ليعرف الناس خبثه وجلافته، وأن تبسُّط الرسول عليه الصلاة والسلام له حين لقائه أمر من آثار الملاقاة والمحادثة، فالتبسط إكرام للوارد وهو من مكارم الأخلاق، وأنَّ الضحك معه من آثار جريان ما يوجب الضحك عند المحادثة، فليس بين قول الرسول عليه الصلاة والسلام وفعله تعارض؛ لأنه لو لاقاه بالعبوس لكان من سوء تلقي الوافد ولا داعي إليه؛ إذ ليس من حقِّ الرجل الصالح أن يعامل الرجل الذميم بالغلظة والجفاء إلَّا حين ظهور منكر أو شيء يوجب الإنكار والموعظة؛ فلذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: «إن من شرِّ الناس من اتَّقاه الناس لشره»، فذلك ضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً لنفسه، أي: أنِّي لست شريرًا حتَّى أظهر الشر للناس فيتقوني، كيف وقد قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فعائشة ظنت أنَّ مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين لها الفرق بين الاعتقاد في حال شخص، وبين إعطائه ما يستحقُّه من المعاملة العرفية، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بكلِّ ما يوجب الإقبال عليه والهشَّ إلى لقائه ويدفع تجهم لقائه؛ لأن مراد الله من بعثته شدَّة امتزاج الأمَّة به؛ ليصلح من أحوالهم على قدر قابليتهم وليس مأمورًا بمعاملة الناس على حسب ما يضمرونه، ولكن على حسب ما هو المعروف بينهم وعلى قدر مراتبهم في أقوامهم، وبهذا تعلم أن ليس المراد بقوله: «أنَّ من شرِّ الناس» إلخ أن ما فعله اتقاء لشر الرجل الوافد وأنه من باب التقية؛ لأن ذلك لا يناسب مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل أراد أنَّه منزه عن استجلاب اتِّقاء الناس إياه بالغلظة والشر؛ لأن جميع أكوانه - صلى الله عليه وسلم - رحمة، كما قصره على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].