«قصد مالك رحمه الله في هذا الكتاب (أي الموطأ) تبيين أصول الفقه وفروعه» اهـ.
وقد أثبت مالك في «الموطأ» ما صح من علم، وحُكم عن الخلفاء الراشدين، وأئمة الإسلام أهل الفقه، والتثبت من الصحابة والتابعين، كما ذكرنا آنفًا؛ لأنه قصد منه بيان علم الشريعة، وليس علم الشريعة بمنحصرٍ في ما صح من الأقوال، والأفعال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أصحابه المهتدين بهديه، قد شاهدوا من تصرفاته ما كان رائدهم في قضاياهم وفتاواهم، إذ كانوا ممن لا يتسرع إلى القضايا والفتوى بغير هُدى من الله. وحسبك بمثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأشباههم، فمن يتصدى إلى جعل كتاب في الدين يقتصر فيه على ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قولٍ، وعملٍ فقد أعرض عن معين غامر من مصادر الفقه، ولولا ما أثبته مالك في «الموطأ» من ذلك لضاع علم كثير من علم الصحابة والتابعين، وحُرم من جاء بعد مالك من التبصر في مسالك فقه أولئك وتفقههم.
وقد تبع البخاري في صحيحه «مالكًا» فيما صنعه متابعة قليلة، وكذلك الترمذي في «جامعه»، وأهمل ذلك مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وإني لأعجب من الشيخ أبي الحسن القابسي فيما ألَّف من «ملخص الموطأ»، ومن أبي عمر بن عبد البر فيما ألف من كتاب «التمهيد» و «التقصي»؛ إذا عمدا إلى الاقتصار على الآثار النبوية، فأنسيا بذلك مزية عظيمة للموطأ، وأحسبهما غلبت عليهما نزعة الصناعة.
وقال ابن العربي في آخر كتاب «القبس»: «إن مالكًا يُترجم أبواب الموطأ إذا كان المسمى بها جائزًا يقول: «ما جاء في جواز كذا»، وإن كان ممنوعًا قال: «تحريم كذا»، وإذا احتمل الأمرين عنده وأراد إخراج ما روي فيه أطلق القول كما قال: «باب الاستمطار بالنجوم» اهـ.
وقال عياض في «المدارك»: جعل مالك أحاديث زيد بن أسلم في أواخر الأبواب، فقيل له في ذلك، فقال: هي كالسراج تضيء لما قبلها. قال جلال الدين السيوطي: فكان يقول: «إذا مرَّ بحديث زيد بن أسلم أخَّروا هذا الشذر حتى نضعه