إن الخليفة أبا جعفر المنصور، لما جاء المدينة قال لمالك: ضُم هذا العلم يا أبا عبد الله ودونه كتبًا، وتجنب فيه شدائد عبد الله بن عمر، ورُخَصَ عبد الله بن عباس، وشواذ ابن مسعود، وأقصد أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة.
وفي رواية أنه قال له: فألف للناس كتابًا ووطئه لهم توطئة، فسُمي هذا الكتاب «الموطأ» لذلك، وحكى جلال الدين السيوطي في «تنوير الحوالك»: أنه نقل عن الإمام مالك أنه قال: عرضت هذا الكتاب على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميته «الموطأ».
وقد عُني فيه مالك بذكر ما عليه إجماع أهل المدينة في الدين والمعاملات الشرعية؛ لأن المدينة هي دار علم الإسلام في القرنين الأول والثاني، وعلماؤها هم قدوة أهل الدين، والأثر، وأتباع السنة.
فأما أنها دار العلم والأثر الصحيح، فظاهر معلوم؛ لأنها مأوى أعلم الصحابة وأشدهم ملازمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما أن علماؤها هم أتباع السنة؛ فلأن البدع والضلالات ظهرت في وسط آخر عصر الصحابة، فكان ظهورها في غير المدينة؛ إذ لم يكن في المدينة نخلة من العقائد الزائغة والضلالات؛ لأن علماءها كانوا ينفون عنهم أصحاب البدع، فلا يجدون فيها رواجًا، وفي الحديث: «المدينة تنفي خبثها»، وأن أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالفضل في الحديث المعروف، كان وجودهم وأئمتهم وخيرتهم في المدينة، يعلم هذا كل من يعلم حال عصور الإسلام وتحولها، فلا نطيل ببيانه هنا؛ إذ ليس من غرضنا.
قال مالك رحمه الله: «لولا أن عمر بن عبد العزيز أخذ هذا العلم بالمدينة، لشككه كثيرٌ من الناس»، قال ابن العربي في باب النوم عن الصلاة من كتابه «القبس»: