أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 26 - 28]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
فهدى الله من هدى من العرب إلى زيادة الكعبة، ثمَّ أقيمت عندها الأسواق ورغبهم في الاجتياز بها ما كان لإسماعيل وذريته من سنة قرى الضيف؛ فأصبحت مكَّة مأمنًا للمارين إلى أن كثرت ذرية إسماعيل وتفرَّقوا فيما حولها وفيما بعُد عنها، فكان منهم مادة لسكان مكَّة الذين هم دَعوة إبراهيم.
فكانت أعمال الحج ومناسكه ممَّا رسمه إبراهيم - عليه السلام - بإذن ربِّه تعالى، واستمر عليه العرب في أطوارهم كلَّها إلى أن دخل فيهم الإشراك، فحرَّفوا الحنيفية، ومع ذلك لم يدخلوا في مناسك الحجِّ شيئًا ن عبادة الأصنام إلَّا وضعَهم طائفة من الأصنام في المسجد الحرام.
ولما جاء الإسلام لم يغير من مناسك العرب ي الحجِّ إلَّا أشياء قليلة هي التي دخلها التحريف، مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقول النبي - عليه السلام - «أن لا يحج بعد العام مشرك ول يطوف بالبيت عريان»، بل رفع توهمًا كان توهَّمه الأنصار في تركهم السعي بين الصفا والمروة؛ لأنَّهم كانوا ي الجاهلية يتجنَّبون السعي بينهما؛ إذ كان عليهما الصَّنمان (إسافّ ونائلة)، وكان أهل يثرب لا يدينون لهما وإنَّما كانوا يعبدون مناة، فكانوا يهلُّون إليها حذو قديد بعد انقضاء الحجِّ، فلما جاء الإسلام تركوا عبادة مناة ظنَّوا أنَّ السعي بين الصفا والمروة إنَّما كانت قريش تفعله لأجل إساف ونائلة؛ فتخرَّج الأنصار من السعي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة 158]. كما أخرج مالك رحمه الله، في هذا حديث عروة بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنهم -، وفي «صحيح البخاري» عن عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: