أصل الحجَّ من الحنيفية، أذن الله به خليله إبراهيم - عليه السلام -؛ ليتم مرادُ الله تعالى من تأهيل ذلك الوادي المبارك بذرِّية إبراهيم؛ فيكونوا في معزل عن الاندماج في مساوي الأمم الضالة، وفي منجاة من مساوي الأخلاق الموروثة من فاسد الأعراق، فإنَّ الأخلاق تتلاقح بالقرب، وتُعدي الصحاحَ مباركُ الجُرْب، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 35 - 37] فقد عُلم أنَّه لم يسكنهم في ذلك المعزل إلَّا حرصًا منه على بقاء كلمة التوحيد محفوظة محروسة في قوم يعلنونها ويشيدون ذكرها ويرفعونها. قال الله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28]، وكل ذلك تهيئة لظهور الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي قطع الله به شبه الشرك والضلال، كما يؤمئ إلى ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 28، 29]؛ وإذ قد علم إبراهيم من سنَّة هذه الحياة أن لا يستقيم أمر المنعزلين في مكان إذا انقطع عنهم مدد العيش وخشي إنِ اشتدَّ عليهم تحصيل عيشهم أن يغادروا ذلك المكان، ويلتحقوا بالأمم الذين سكن حبُّ الشرك أفئدتهم ورَانَ؛ سأل إبراهيم ربه أن يسهل رزق ذريته الذين أودعهم في ذلك الوادي من الواردين عليهم المجتازين دون الساكنين المجاورين؛ لئلاَّ تلتصق بهم المساوي من الساكن والثاوي، فقال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]؛ فشرع الله لذلك الحجَّ على لسان إبراهيم شرعًا قضى الله به أمنية خليله في جانبي الدين والدنيا؛ فكان حجُّ الناس إلى كعبة التوحيد بثًّا لدعوته وإعلانًا لحجته، وكان مع ذلك مجلبة للأرزاق من سائر الآفاق. قال الله تعالى في حكاية ذلك والتنبيه على نُكت منها ما ذكرنا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ