وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ أَيْضًا أَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَبَاطِلٌ وَكُلُّ عَصْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذَا سُكُوتٌ أَيْضًا بَلْ اخْتِلَافُهُمْ يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــQابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُخْبِرْ بِقَوْلِهِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَهَابَةً لَهُ مَعَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُهُ وَيَدْعُوهُ فِي الشُّورَى مَعَ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ لِمَا عَرَفَ مِنْ فِطْنَتِهِ وَقُوَّةِ ذِهْنِهِ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِأَشْيَاءَ فَقَبِلَهَا مِنْهُ وَاسْتَحْسَنَهَا وَكَانَ يَقُولُ لَهُ غُصْ يَا غَوَّاصُ شَنْشَنَةً أَعْرِفُهَا مِنْ أَحْزَمَ يَعْنِي أَنَّهُ شَبَّهَ ابْنَ الْعَبَّاسِ فِي رِوَايَتِهِ وَدَهَائِهِ وَمَعَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ أَلْيَنَ لِلْحَقِّ وَأَشَدَّ انْقِيَادًا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى كَانَ يَقُولُ لَا خَيْرَ فِيكُمْ مَا لَمْ تَقُولُوا وَلَا خَيْرَ فِي مَا لَمْ أَسْمَعْ، وَكَانَ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيَّ عُيُوبِي، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي بَيْنَ قَوْمٍ إذَا رَغِبْت عَنْ الْحَقِّ قَوَّمُونِي وَلَمَّا نَهَى عَنْ الْمُغَالَاةِ فِي الْمُهُورِ فِي خُطْبَتِهِ قَالَتْ امْرَأَةٌ: أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] فَتَمْنَعُنَا عَمَّا أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ امْرَأَةٌ خَاصَمَتْ رَجُلًا فَخَصَمَتْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ وَقَالَ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى النِّسَاءِ فِي الْبُيُوتِ وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى جَلْدِ الْحَامِلِ قَالَ لَهُ مُعَاذٌ إنْ جَعَلَ اللَّهُ لَك عَلَى ظَهْرِهَا سَبِيلًا فَلَمْ يَجْعَلْ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلًا فَقَالَ لَوْلَا مُعَاذٌ لَهَلَكَ عُمَرُ وَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} [التوبة: 100] بِالْوَاوِ وَهُوَ كَانَ يَقْرَأُ بِغَيْرِ وَاوٍ فَقَالَ مَنْ أَقْرَأَك فَقَالَ أُبَيٌّ فَدَعَاهُ فَقَالَ أَقْرَأَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّك لَتَبْتَعُ الْقُرْطَ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ صَدَقْت، وَإِنْ شِئْت قُلْت شَهِدْنَا وَغِبْتُمْ وَنَصَرْنَا وَخَذَلْتُمْ وَآوَيْنَا وَطَرَدْتُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ إظْهَارِ قَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ مَهَابَةً لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَئِنْ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ فَتَأْوِيلُهُ إبْلَاءُ الْعُذْرِ أَيْ إظْهَارُهُ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ مُنَاظَرَتِهِ يَعْنِي لَمَّا عَرَفَ فَضْلَ رَأْيِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَفِقْهِهِ مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَاجَّةِ مَعَهُ كَمَا يَكُونُ مِنْ حَالِ الشُّبَّانِ مَعَ ذَوِي الْأَسْنَانِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَإِنَّهُمْ يَهَابُونَ الْكِبَارَ فَلَا يَسْتَقْصُونَ فِي الْمُحَاجَّةِ مَعَهُمْ حَسَبَ مَا يَفْعَلُونَ مَعَ الْأَقْرَانِ بَعْدَ ثَبَاتِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَيْ بَعْدَ ثَبَاتِ عُمَرَ عَلَى مَذْهَبِهِ يَعْنِي لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَرَكَ مُنَاظَرَتَهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ بَعْدَ ثَبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَذْهَبِهِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ هُوَ ثَابِتًا عَلَى مَذْهَبِهِ لَا يَضُرُّهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ مُنَاظَرَةِ مَنْ فَوْقَهُ فِي الدَّرَجَةِ احْتِشَامًا لَهُ.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ السُّكُوتَ يَدُلُّ عَلَى الْوِفَاقِ وَيَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ يُخَرِّجُ الْمَسْأَلَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا فِي حَادِثَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ أَقَاوِيلَ مَحْصُورَةٍ كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا قَوْلَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ سِوَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَأَنَّ مَا خَرَجَ مِنْهَا بَاطِلٌ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ آخَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: إنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا بِقَوْلِهِ أَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ وَعَطَفَ قَوْلَهُ وَكُلُّ عَصْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَفِي اخْتِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ اخْتِلَافٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي آخِرِ الْبَابِ وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ هَذَا سُكُوتٌ أَيْضًا يَعْنِي اخْتِلَافَهُمْ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ سُكُوتٌ عَمَّا وَرَاءَهَا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ قَوْلٍ آخَرَ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَة الْأُولَى إذْ الْمُحْتَمَلُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بَلْ اخْتِلَافُهُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَادِثَةِ وَالْمَصِيرِ إلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فَجَازَ إحْدَاثُ قَوْلٍ