وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ لَا يَعْدُوهُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ بِيَقِينٍ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَصْرِ الْأَقْوَالِ فِي الْحَادِثَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ الْجَهْلُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى أَقْوَالٍ فَعَلَى هَذَا أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ إنَّمَا ذَلِكَ لِلصَّحَابَةِ خَاصَّةً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - أَجْمَعِينَ وَكَذَلِكَ مَا خَطَبَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فَهُوَ إجْمَاعٌ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQآخَرَ فِيهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ أَيْ لَا يُعَيِّنُ سُكُوتُهُمْ أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَقْوَالِ هُوَ الثَّابِتُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْغَيْرِ نَوْعُ تَعْيِينٍ لَهَا، وَالتَّعَيُّنُ لَا يَثْبُتُ بِالْمُحْتَمَلِ وَفَصَلَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ فَقَالَ إنْ كَانَ الْقَوْلُ الْحَادِثُ رَافِعًا لِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ يَكُونُ مَرْدُودًا أَيْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأَخِ عَلَى قَوْلَيْنِ اسْتِحْقَاقُ كُلِّ الْمَالِ وَالْمُقَاسَمَةُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَهُ قِسْطًا مِنْ الْمَالِ فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا يَكُونُ مَرْدُودًا لِاسْتِلْزَامِهِ خِلَافَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَافِعًا لِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بَلْ وَافَقَ كُلَّ قَوْلٍ مِنْ وَجْهٍ وَخَالَفَهُ مِنْ وَجْهٍ لَا يَكُونُ مَرْدُودًا مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أُمٍّ وَزَوْجٍ أَبٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبٍ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقِيلَ لَهَا ثُلُثُ الْكُلِّ فِي الصُّورَتَيْنِ وَقِيلَ ثُلُثُ مَا يَبْقَى فِي الصُّورَتَيْنِ.
فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثُلُثُ الْكُلِّ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَهِيَ امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ وَثُلُثُ الْبَاقِي فِي الْأُخْرَى لَا يَكُونُ مَرْدُودًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَلَا إبْطَالَ الْقَوْلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْمَانِعُ مِنْ إحْدَاثِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَيْسَ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ، فَإِذَا انْتَفَيَا لَزِمَ الْجَوَازُ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الِاجْتِهَادُ كَمَا لَوْ حَكَمَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ بِحُكْمَيْنِ وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ بِنَقِيضِهَا فِيهِمَا وَالثَّالِثُ وَافَقَ كُلًّا فِي إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَبُطْلَانَ الْقَوْلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَذَا هَذَا وَلَكِنَّنَا نَقُولُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَا نَعُدُّهُ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ لِمَا سَنُبَيِّنُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى حَصْرِ الْأَقْوَالِ فِي الْحَادِثَةِ إذْ لَوْ كَانَ وَرَاءَ أَقْوَالِهِمْ قَوْلٌ آخَرُ مُحْتَمِلٌ لِلصَّوَابِ لَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ إجْمَاعًا عَلَى الْخَطَأِ وَلَوَجَبَ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ إذْ لَا بُدَّ لِلْقَوْلِ الْخَارِجِ مِنْ دَلِيلٍ وَلَا بُدَّ مِنْ نِسْبَةِ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِهِ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَيْ بِجَمِيعِ الْأُمَّةِ الْجَهْلُ بِالْحَقِّ وَالْعُدُولُ عَنْهُ فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ فِي الْمَعْنَى عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُحَرِّمُ الْأَخْذَ إلَّا بِمَا قَالَتْهُ أَوْ قَالَهُ مُخَالِفُهَا فَقَطْ فَجَوَازُ إحْدَاثِ قَوْلٍ آخَرَ يَقْتَضِي جَوَازَ الْأَخْذِ بِهِ وَقَدْ مَنَعُوا مِنْهُ.
وَلَا يُقَالُ إنَّمَا حَظَرُوا الْأَخْذَ إلَّا بِمَا قَالُوهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ اجْتِهَادُ غَيْرِهِمْ إلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الِاحْتِمَالَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبُوا التَّمَسُّكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْقَوْلِ الْوَاحِدِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يُقَالُ أَيْضًا إنَّمَا جَوَّزْنَا الْقَوْلَ الْحَادِثَ؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَ إنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَلْزَمُ مِنْ تَجْوِيزِ الْقَوْلِ بِهِ حَقِيقَةٌ إذْ الِاجْتِهَادُ الْخَطَأُ قَدْ يُعْمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَا يَلْزَمُ مِنْ حَقِيقَتِهِ بُطْلَانُ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ صَحَّ هَذَا لَصَحَّ مُخَالَفَةُ أَيِّ إجْمَاعٍ كَانَ وَهُوَ بَاطِلٌ وَقَوْلُهُمْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ يُوجِبُ تَسْوِيغَ الِاجْتِهَادِ قُلْنَا إنَّهُ يُوجِبُ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فَأَمَّا فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ فَلَا لِتَأْدِيَتِهِ إلَى إبْطَالِ إجْمَاعِهِمْ أَوْ أَنَّهُ يُوجِبُ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا وَلَكِنْ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْخِلَافِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْحَادِثِ فَأَمَّا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْخِلَافِ