وَقَوْلُهُ {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ التَّائِبِينَ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فَكَانَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا أَوْ يُحْمَلُ الصَّدْرُ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ بِدَلَالَةِ الثُّنْيَا فَكَأَنَّهُ قَالَ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] بِكُلِّ حَالٍ إلَّا حَالَ التَّوْبَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى السَّلَامِ هُوَ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ وَدَارُ السَّلَامِ هِيَ دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ الْآفَاتِ، وَأَهْلُهَا عَنْ الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ أَغْنِيَاءٌ فَكَانَ ظَاهِرُهُ مِنْ بَابِ اللَّغْوِ وَفُضُولِ الْحَدِيثِ لَوْلَا مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ لِأَهْلِهَا كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَالْمَطْلَعِ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ) ذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ التَّائِبِينَ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ؛ لِأَنَّ التَّائِبَ مَنْ قَامَ بِهِ التَّوْبَةُ وَلَيْسَ فِيهِ صِفَةُ الْفِسْقِ، وَالْفَاسِقُ مَنْ قَامَ بِهِ وَصْفُ الْفِسْقِ وَلَيْسَ فِيهِ وَصْفُ التَّوْبَةِ فَلَا يَكُونُ التَّائِبُ فَاسِقًا فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الصَّدْرِ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ فَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقَةً فَكَانَ مُنْقَطِعًا.
وَالثَّانِي أَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ أَصْلًا وَلَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ دَاخِلًا كَقَوْلِك جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا لَمْ يَدْخُلْ زَيْدٌ فِي حُكْمِ الْمَجِيءِ أَصْلًا وَلَوْلَا الِاسْتِثْنَاءِ لَكَانَ دَاخِلًا وَالتَّائِبُونَ هُمْ الْقَاذِفُونَ فَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا فَسَقَةً فَكَانُوا دَاخِلِينَ فِي الْفَاسِقِينَ أَلْبَتَّةَ وَبِالتَّوْبَةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا قَاذِفِينَ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيُجْعَلُ مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ أَيْ لَكِنْ إنْ تَابُوا فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ شَيْءٌ مِمَّا ثَبَتَ بِصَدْرِ الْكَلَامِ مِنْ وُجُوبِ الْحُدُودِ وَالشَّهَادَةِ وَوَصْفِ الْفِسْقِ بِالِاسْتِثْنَاءِ إلَّا أَنَّ التَّوْبَةَ وَالْفِسْقَ مُتَنَافِيَانِ فَيَتَغَيَّرُ بِهَا وَصْفُ الْفِسْقِ لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ لَا لِلِاسْتِثْنَاءِ، فَأَمَّا التَّوْبَةُ فَلَيْسَتْ بِمُنَافِيَةٍ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ كَالْعَبْدِ الْعَدْلِ الثَّابِتِ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَكَالنِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ الْعَادِلَاتِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فَلِذَلِكَ بَقِيَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ كَمَا كَانَ وَقَوْلُهُ فَكَانَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا يَعْنِي لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ اسْتِخْرَاجُ التَّائِبِينَ عَنْ صَدْرِ الْكَلَامِ لِكَوْنِهِمْ دَاخِلِينَ فِيهِ يُحْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى التَّوْقِيتِ فَكَانَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا أَيْ حِينَ يَتُوبُوا، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى التَّوْقِيتِ لَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ بِالتَّوْقِيتِ يَتَقَرَّرُ مُوجَبُ صَدْرِ الْكَلَامِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى خَارِجًا مِنْ الصَّدْرِ أَيْ غَيْرَ دَاخِلٍ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِلشَّيْخِ أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَكِنْ الَّذِينَ تَابُوا، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَهُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ فَجَعَلُوهُ اسْتِثْنَاءَ حَالٍ بِدَلَالَةِ الثُّنْيَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ وَحَمَلُوا الصَّدْرَ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ أَيْ أَضْمَرُوا فِيهِ الْأَحْوَالَ فَقَالُوا التَّقْدِيرُ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَيْ حَالَ الْمُشَافَهَةِ وَالْغَيْبَةِ وَحُضُورِ الْقَاضِي وَحُضُورِ النَّاسِ وَغَيْبَتِهِمْ وَحَالَ الثَّبَاتِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْقَذْفِ وَحَالَ الرُّجُوعِ وَالتَّوْبَةِ إلَّا فِي حَالِ التَّوْبَةِ.
، ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ جُعِلَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً عَنْ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ عِنْدَنَا بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى مَا قَبْلَهُ لِيَصِحَّ ضَرُورَةَ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى صَرْفِهِ إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ