قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] أَيْ لَكِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَكَذَلِكَ {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] {إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26]

ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُنْفَصِلُ وَيُسَمَّى مُنْقَطِعًا فَجُعِلَ مُبْتَدَأً أَيْ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ مُبْتَدَأٍ حُكْمُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ يَعْمَلُ بِهِ بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَقَوْلُهُ مَجَازًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ.

وَالْمُرَادُ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَا يَنْقَادُ لَهُ؛ لِأَنَّ " جُعِلَ " مُسْنَدٌ إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْمُنْفَصِلِ أَيْ جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ مُبْتَدَأً فَكَانَ قَوْلُهُ مَجَازًا تَمَيُّزًا عَنْ الْجُمْلَةِ أَيْ جُعِلَ الْمُنْفَصِلُ مُبْتَدَأً مِنْ الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَيَنْصَرِفُ الْمَجَازِيَّةُ إلَى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً مِنْ الْكَلَامِ لَا إلَى كَوْنِهِ اسْتِثْنَاءً وَالْمُرَادُ هُوَ الْبَاقِي دُونَ الْأَوَّلِ.

وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ فَجُعِلَ مُبْتَدَأً وَجُعِلَ اسْتِثْنَاءً مَجَازًا وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقَةً مَا بَيَّنَّا وَمَا هُوَ مَجَازٌ مِنْهُ فَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ بِمَعْنَى لَكِنْ أَوْ بِمَعْنَى الْعَطْفِ قَوْله تَعَالَى {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 75] {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 76] {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] أَيْ كُلُّ مَا عَبَدْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَعَبَدَهُ آبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ وَهُمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي سَالِفِ الدَّهْرِ فَإِنِّي أُعَادِيهِمْ وَأَجْتَنِبُ عِبَادَتَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ. إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ فَإِنِّي أَعْبُدُهُ وَأُعَظِّمُهُ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ.

وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ أَيْ مَا عِبَادَةُ مَنْ عَبَدَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ إلَّا عِبَادَةُ أَعْدَاءٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعُودُونَ عَلَى عَابِدِيهِمْ ضِدًّا فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] وَلِأَنَّ الْمُغْرِيَ عَلَى عِبَادَتِهَا الشَّيْطَانُ الَّذِي هُوَ أَعْدَى أَعْدَاءِ الْإِنْسَانِ وَإِنَّمَا قَالَ عَدُوٌّ لِي وَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ فَرْضًا لِلْمَسْأَلَةِ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنِّي فَكَّرْت فِي هَذَا الْأَمْرِ فَرَأَيْتُ عِبَادَتِي لَهَا عِبَادَةً لِلْعَدُوِّ فَاجْتَنَبْتُهَا وَآثَرْتُ عِبَادَةَ مَنْ الْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْهُ وَأَرَاهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهَا نَصِيحَةٌ نَصَحَ بِهَا نَفْسَهُ أَوَّلًا وَبَنَى عَلَيْهَا تَدْبِيرَ أَمْرِهِ لِيَنْظُرُوا فَيَقُولُوا مَا نَصَحَنَا إبْرَاهِيمُ إلَّا بِمَا نَصَحَ بِهِ نَفْسَهُ فَيَكُونَ أَدْعَى إلَى الْقَبُولِ وَأَبْعَثَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَثَابَةُ لَوْ قَالَ عَدُوٌّ لَكُمْ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ يَبْلُغُ فِي التَّأْثِيرِ فِي الْمَنْصُوحِ لَهُ مَا لَا يَبْلُغُ التَّصْرِيحُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَمَّلُ فِيهِ فَرُبَّمَا قَادَهُ التَّأَمُّلُ إلَى التَّقَبُّلِ.

وَالْعَدُوُّ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْعَدُوِّ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَكَثِيرٌ. إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَأَنَّهُ قَالَ لَكِنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ إنَّ جَمِيعَ مَنْ عَبَدْتُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ سَوَّوْا آلِهَتَهُمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ تَبَرَّأَ مِمَّا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا.

قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] أَيْ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] {إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26] فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ وَاللَّغْوُ مَا يَلْغَى مِنْ الْكَلَامِ أَيْ يَسْقُطُ وَالتَّأْثِيمُ مَا يُؤَثِّمُ فِيهِ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ مَا يَلْغَى مِنْ الْكَلَامِ وَلَا مَا يُؤَثِّمُ فِيهِ مِنْ الْهَذَيَانِ وَالتَّفْسِيقِ إلَّا قِيلًا أَيْ لَكِنْ يَسْمَعُونَ فِيهَا قَوْلًا سَلَامًا سَلَامًا هُمَا بَدَلَانِ مِنْ قِيلًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا} [مريم: 62] أَوْ مَفْعُولٌ بِهِمَا لِقِيلًا بِمَعْنَى إلَّا أَنْ يَقُولُوا سَلَامًا سَلَامًا وَمَعْنَى التَّكْرِيرِ أَنَّهُمْ يُفْشُونَ السَّلَامَ بَيْنَهُمْ فَيُسَلِّمُونَ سَلَامًا بَعْدَ سَلَامٍ أَوْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ سَلَامًا بَعْدَ سَلَامٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ إنْ كَانَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ لَغْوًا فَلَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا إلَّا ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ.

قَوْلِهِ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015