وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تُسْتَحَقُّ بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ وَهِيَ نَفَقُهُ ذَوِي الْأَرْحَامِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَذَلِكَ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْأَخَ وَالْعَمَّ وَغَيْرَهُمَا وَيَتَنَاوَلُهُمْ بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ مُشْتَقٍّ مِنْ الْإِرْثِ مِثْلُ الزَّانِي وَالسَّارِقِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ عَدَا الْوَالِدِ يَتَحَمَّلُونَ النَّفَقَةَ عَلَى قَدْرِ الْمَوَارِيثِ حَتَّى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ وَالْجَدِّ أَثْلَاثًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنًى فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَفِي قَوْلِهِ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَجْرَ الرَّضَاعِ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَسْأَلَةِ النِّسْبَةُ أَيْ كَوْنُ الْوَلَدِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهَا بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةِ أَحَدٍ فِيهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِنِسْبَتِهِ الْمِلْكَ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ الْكَبِيرِ مِثْلَ الِابْنِ الزَّمِنِ وَالْبِنْتِ الْبَالِغَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا مِنْ الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ وَمُؤْنَةٌ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ فَاخْتَصَّ بِنَفَقَتِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْكَبِيرُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَتُشَارِكُهُ الْأُمُّ قَوْلُهُ وَفِيهِ أَيْ فِي هَذَا النَّصِّ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَجْمُوعَ الْآيَةِ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ وَاحِدٍ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] دَلِيلٌ مِنْهُ عَلَى كَذَا إشَارَةٌ أَنَّ النَّفَقَةَ يُسْتَحَقُّ بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ حَتَّى يُجْبَرَ الرَّجُلُ عَلَى نَفَقَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ مِنْ الصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ وَأَهْلِ الزَّمَانَةِ مِنْ الرِّجَالِ إذَا كَانُوا ذَوِي حَاجَةٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى.
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] .
وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَالشَّافِعِيُّ يَبْنِي عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِحْقَاقَ الصِّلَةِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ حَتَّى لَا يُعْتَقَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، إلَّا الْوَالِدَانِ وَالْمَوْلُودُونَ عِنْدَهُ وَجَعَلَ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ، فَكَذَلِكَ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَفِيمَا بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ الِاسْتِحْقَاقُ بِعِلَّةِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْقَرَابَةِ.
وَحُمِلَ قَوْلُهُ وَعَلَى الْوَارِثِ عَلَى هِيَ الْمُضَارَّةُ دُونَ النَّفَقَةِ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ عُمَرَ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُمَا قَالَا: وَعَلَى الْوَارِثِ أَيْ وَارِثِ الْوَلَدِ.
مِثْلُ ذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الَّذِي عَلَى الْأَبِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ. ثُمَّ نَفْيُ الْمُضَارَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوُرَّاثُ بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَارِثِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ.
وَلِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ نَفْيُ الْمُضَارَّةِ لَقِيلَ وَلَا الْوَارِثُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَوْ قِيلَ وَالْوَارِثُ مِثْلُ ذَلِكَ فَلَمَّا قَالَ وَعَلَى الْوَارِثِ دَلَّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] . وَكَذَا قَوْلُهُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْأَبْعَدِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَقَطْعُهَا لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَنْعِ النَّفَقَةِ مَعَ يَسَارِ الْمُنْفِقِ وَصِدْقُ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ لَهُ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ إذَا بَعُدَتْ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِهَا وَذَلِكَ أَيْ لَفْظُ الْوَارِثِ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ كَذَا لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلًّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَكَانَ عَامًّا فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يُسَمَّى وَارِثًا وَيَتَنَاوَلُهُمْ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِرْثِ وَمَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ فِي كُلِّ مُسَاقٍ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ الْمُضَافِ إلَى الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لِلِاشْتِقَاقِ أَثَرٌ إلَى الْإِيجَابِ كَمَا فِي السَّارِقِ وَالزَّانِي فَيَكُونُ الْإِرْثُ عِلَّةً لِوُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِعِلَّةِ الْإِرْثِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ فَإِنْ قِيلَ يُفْهَمُ بِسَوْقِ الْكَلَامِ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَارِثِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْعِبَارَةِ فَكَيْفَ سَمَّاهُ إشَارَةً. قُلْنَا: نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ سَوْقَهُ لَا يُجَابُ النَّفَقَةُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَوْقَهُ لِبَيَانِ أَنَّ مَأْخَذَ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لِهَذَا الْحُكْمِ فَيَكُونُ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ إشَارَةً. وَفِيهِ أَيْ وَفِي قَوْلِهِ {وَعَلَى الْوَارِثِ} [البقرة: 233] . فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِرْثُ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ قَوْلُهُ (وَفِي قَوْله تَعَالَى رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ. إشَارَةٌ إلَى) كَذَا قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الْمَنْكُوحَاتُ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ وَأَنَّهُمَا مِنْ مُوجِبَاتِ النِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَجْرَ فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَاتِ فَقَالَ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَالْمُرَادُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ فَضْلُ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِرْضَاعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النَّفَقَةِ وَاجِبٌ بِالنِّكَاحِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ الْوَالِدَاتُ الْمُطَلَّقَاتُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ