وَأَمَّا الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُبَاشِرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَفْسُدُ لِعَدَمِ الرِّضَا وَلَا يَصِحُّ الْأَقَارِيرُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ صِحَّتَهَا تَعْتَمِدُ قِيَامَ الْمُخْبَرِ بِهِ وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ عَدَمِهِ وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَ الْخَصْمِ أَنَّ الضَّرَرَ مَوْقُوفٌ عَلَى الرِّضَا بَلْ عَلَى الِاخْتِيَارِ.
أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْتَارُ الضَّرَرَ كَارِهًا غَيْرَ رَاضٍ كَالْفَصْدِ وَشُرْبِ الدَّوَاءِ وَإِنَّمَا الرِّضَا لِلُّزُومِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا غَيْرُ وَهَذَا بِخِلَافِ أَقَارِيرِ السَّكْرَانِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ عَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ السُّكْرَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ عُذْرًا لَمْ يَصْلُحْ دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ بَلْ جُعِلَ دَلَالَةً عَلَى الرُّجُوعِ بِخِلَافِ السَّكْرَانِ إذَا ارْتَدَّ فَإِنَّ امْرَأَتَهُ لَا تَبِينُ وَجُعِلَ السُّكْرُ دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَعْتَمِدُ مَحْضَ الِاعْتِقَادِ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ وَالشُّبْهَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ وَمَا يَعْتَمِدُ الْعِبَارَةَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ أَيْضًا وَالْكَامِلُ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَالْقَاصِرِ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخُلْعِ مِثْلَ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِثْلَ الْيَمِينِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ الْإِيجَابِ لِثُبُوتِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ لَا بُدَّ مِنْ صِحَّتِهِ أَيْضًا لِثُبُوتِ الْمَالِ فِي الْخُلْعِ وَمَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ بِمَنْعِ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ وَمَا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَمْنَعُ فِي الْخَلْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ مَا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ يَمْنَعُ اللُّزُومَ وَفِي الْخُلْعِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّلَاقُ هَاهُنَا وَالْمَالُ تَابِعٌ وَهَذَا الْمَانِعُ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ لُزُومِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ لُزُومِ التَّابِعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّابِعِ يُؤْخَذُ مِنْ الْمَتْبُوعِ أَبَدًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ يَتْبَعُ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ.
قَوْلُهُ (فَأَمَّا الَّذِي) أَيْ التَّصَرُّفُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُبَاشِرِ أَيْضًا كَاَلَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا يَفْسُدُ أَيْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُ نَفَاذَهُ لِفَوَاتِ الرِّضَا الَّذِي هُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ بِالْإِكْرَاهِ فَيَنْعَقِدُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ فَلَوْ أَجَازَ التَّصَرُّفَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً صَحَّ؛ لِأَنَّ رِضَاءَهُ قَدْ تَمَّ وَلِلْفَسَادِ كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ فَيَزُولُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدُ بِالْإِجَازَةِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ أَجَلٍ فَاسِدٍ أَوْ خِيَارٍ فَاسِدٍ إذَا أَسْقَطَ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ أَوْ الْخِيَارُ مَا شُرِطَ لَهُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا فَكَذَا هَذَا وَلَا يَصِحُّ الْأَقَارِيرُ كُلُّهَا حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ بِقَتْلٍ أَوْ إتْلَافِ عُضْوٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِعِتْقٍ مَاضٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ رَجْعَةٍ أَوْ فَيْءٍ فِي إيلَاءٍ أَوْ عَفْوٍ عَنْ دَمِ عَمْدٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ لِإِنْسَانٍ أَوْ إبْرَاءٍ عَنْ دَيْنٍ أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِإِسْلَامٍ مَاضٍ كَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِّدَ بِمَا يَخَافُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُلْجِئٌ إلَى الْإِقْرَارِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْحَقَّ بِاعْتِبَارِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَذَلِكَ يَفُوتُ بِالْإِلْجَاءِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقْرَارَهُ هَذَا لَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُخْبَرِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهِ دَفْعًا لِلسَّيْفِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ عَدَمِهِ أَيْ عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ.
وَكَذَا إنْ هُدِّدَ بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ؛ لِأَنَّ الرِّضَا يَنْعَدِمُ بِالْحَبْسِ وَالْقَيْدِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْهَمِّ، وَعَدَمُ الرِّضَا يَمْنَعُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي إقْرَارِهِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِثْلُ الْهَزْلِ فِي تَفْوِيتِ الرِّضَا وَمَنْ هَزَلَ بِإِقْرَارٍ لِغَيْرِهِ وَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ هَزْلٌ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قَالَ لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ هَذَا ابْنِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَهُنَاكَ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ فِيمَا قَالَ فَوْقَ مَا يَتَيَقَّنُ بِالْكَذِبِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ مُكْرَهًا فَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ ثَمَّةَ يَنْفُذُ هَاهُنَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى قُلْنَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ ذَلِكَ الْكَلَامَ مَجَازًا فِي الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَجَازِ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إقْرَارُهُ مَجَازًا فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّكَلُّمِ بِالْحَقِيقَةِ وَقَدْ يُرَجِّحُ جِهَةَ الْكَذِبِ فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ فَبَطَلَ.
قَوْلُهُ (بِخِلَافِ السَّكْرَانِ إذَا ارْتَدَّ) جَوَابٌ عَنْ نَقْضٍ يَرُدُّ عَلَى إقْرَارِ السَّكْرَانِ فَإِنَّ السُّكْرَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصْلُحَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ فِي الرِّدَّةِ أَيْضًا فَقَالَ الرِّدَّةُ تَعْتَمِدُ مَحْضَ الِاعْتِقَادِ أَيْ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالتَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ دَلِيلٌ مَحْضٌ عَلَيْهِ وَقَدْ وَقَعَ فِي الِاعْتِقَادِ الشَّكُّ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ عَقْلِهِ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِاعْتِقَادِ مِثْلَ كَلَامِ الصَّاحِي وَبِالنَّظَرِ إلَى انْطِمَاسِ نُورِ الْعَقْلِ بِالسُّكْرِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ بِالشَّكِّ فَلَا تَثْبُتُ الرِّدَّةُ وَلَا الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِالشَّكِّ وَمَا يَعْتَمِدُ الْعِبَارَةَ نَحْوُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صُدُورَ كَلَامِهِ