وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارُ لَمْ يَبْطُلْ بِالْإِكْرَاهِ مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِالْهَزْلِ وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ وَالرِّضَا بِالْحُكْمِ وَلَا يَبْطُلُ شَرْطُ الْخِيَارِ وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَصْلًا فَلَأَنْ لَا يَبْطُلُ بِمَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ أَوْلَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــQالرِّدَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَثْبُتُ بِتَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ، وَالتَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَقِيَامُ الْإِكْرَاهِ هَاهُنَا مَنَعَ كَوْنَ التَّكَلُّمِ دَلِيلًا عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ الِارْتِدَادُ فَلَا تَقَعُ الْبَيْنُونَةُ وَلَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْحُكْمِ أَيْضًا عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَسْأَلَةِ إكْرَاهِ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ وَلَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ النِّسْبَةِ إلَّا بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إلَى رَدِّ مَا ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ أَثَرَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ فِي نَقْلِ الْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ حَقِيقَةً مِنْ شَخْصٍ إلَى غَيْرِهِ وَالْمَسَائِلُ تَشْهَدُ بِخِلَافِ هَذَا أَيْضًا فَإِنَّ الْبَالِغَ إذَا أَكْرَهَ صَبِيًّا عَلَى قَتْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَهَذَا الْفِعْلُ فِي مَحَلِّهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِانْتِقَالِهِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ.
بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ ابْتِدَاءً بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِطَرِيقِ النَّقْلِ وَجَعْلُ الْمُكْرَهِ آلَةً لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بِالْإِكْرَاهِ يَفُوتُ اخْتِيَارُهُ أَصْلًا وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ يَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ بِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ إذْ الْإِنْسَانُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ حَيَاتِهِ وَذَلِكَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَالْفَاسِدُ فِي مُعَارَضَةِ الصَّحِيحِ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ وَالْمُكْرَهُ يَصِيرُ آلَةً لَهُ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِ حُكْمًا فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ وَإِلَى مَا ذَكَرَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَلَا وَجْهَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ ذَاتِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالنَّقْلِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَإِلَّا وَجَبَ قَصْرُ الْفِعْلِ بِحُكْمِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِيضَاحِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا يَصْلُحُ آلَةً أَنَّ الْمُكْرِهَ يُمْكِنُهُ إيجَادُ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا حَمَلَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ بِوَعِيدِ التَّلَفِ صَارَ كَأَنَّهُ فِعْلُ نَفْسِهِ وَمِنْ قَوْلِنَا لَا يَصْلُحُ آلَةً أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا حَمَلَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ يَبْقَى مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَفِي الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمَرْءُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ حِسًّا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لِلِسَانِ الْمُتَكَلِّمِ اخْتِيَارٌ فَاقْتَصَرَ الْأَقْوَالُ بِأَحْكَامِهَا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَلَا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُكْرِهَ طَلَّقَ امْرَأَةَ الْمُكْرَهِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِلْمُكْرَهِ فَإِنَّ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ يَصِحُّ وَمَتَى طَلَّقَ الْوَكِيلُ كَانَ عَامِلًا لِلْمُوَكِّلِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يُطَلِّقُ وَلَا يَعْتِقُ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ حَنِثَ فَعُلِمَ أَنَّ الْوَكِيلَ صَارَ آلَةً لِلْمُوَكِّلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرَهِ وَفِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْجِعُ بِضَمَانِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى الْمُكْرَهِ وَلَوْ لَمْ يَصِرْ آلَةً لَهُ لِمَا رَجَعَ وَإِذَا صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ صَارَ كَأَنَّ الْمُكْرِهَ طَلَّقَ امْرَأَةَ الْمُكْرَهِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْغُوَ.
قُلْنَا الْمُكْرَهُ إنَّمَا يَصْلُحُ آلَةَ الْمُكْرِهِ فِيمَا لَوْ أَرَادَ الْمُكْرَهُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ لَقَدَرَ عَلَيْهِ فَيَنْزِلُ فَاعِلًا بِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ تَقْدِيرًا وَاعْتِبَارًا، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَاعِلًا حُكْمًا فَفِي تَطْلِيقِ امْرَأَةِ نَفْسِهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ مُتَصَرِّفًا بِنَفْسِهِ فَإِذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ وَاسْتَعْمَلَهُ جُعِلَ عَامِلًا تَقْدِيرًا وَاعْتِبَارًا فَأَمَّا فِي تَطْلِيقِ امْرَأَةِ الْمُكْرَهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُبَاشِرًا بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمُكْرَهِ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ نَحْوِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا فَنَحْنُ لَا نَنْظُرُ إلَى التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِمَّا نَنْظُرُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامِ وَإِلَى الْحُكْمِ فَمَتَى كَانَ فِي وُسْعِهِ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ يُجْعَلُ غَيْرُهُ آلَةً لَهُ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ لَمْ يُجْعَلْ غَيْرُهُ آلَةً لَهُ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْمُرْسِلِ عَلَى مَا قِيلَ لِسَانُ الرَّسُولِ لِسَانُ الْمُرْسِلِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْأَمْرُ الْحَقِيقِيُّ وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْمَجَازِ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّبْلِيغِ لَا مِنْ بَابِ التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ إذْ التَّبْلِيغُ قَدْ يَكُونُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالْمُشَافَهَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ كَالْكِتَابِ وَالْإِرْسَالِ عَلَى وُجُودِ