وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُدَّةِ عِنْدَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ لَكِنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا فَكَانَ دُونَ الْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ وَدُونَ الْخَطَإِ لَكِنَّهُ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ فَإِذَا عَارَضَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَجَبَ تَرْجِيحُ الصَّحِيحِ عَلَى الْفَاسِدِ إنْ أَمْكَنَ فَيُجْعَلُ الِاخْتِيَارُ الْفَاسِدُ مَعْدُومًا فِي مُقَابَلَتِهِ وَإِذَا جُعِلَ مَعْدُومًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَدِيمِ الِاخْتِيَارِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَا يَسْتَقِيمُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرَهِ فَلَا يَقَعُ الْمُعَارَضَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُكْمِ فَبَقِيَ مَنْسُوبًا إلَى الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْقُطُ بِالتَّرْجِيحِ.
أَلَا يُرَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الِاخْتِيَارِ صَالِحٌ لِلْخِطَابِ وَصَارَتْ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا مُنْقَسِمَةً إلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَقْوَالُ قِسْمٌ وَاحِدٌ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِيهَا لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ فَاقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ وَالْأَفْعَالُ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مِثْلُ الْأَقْوَالِ.
وَالثَّانِي مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ وَالْأَقْوَالُ قِسْمَانِ أَيْضًا مَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ دُونَ الرِّضَا وَالْإِكْرَاهُ
نَوْعَانِ كَامِلٌ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَيُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَقَاصِرٌ يَعْدَمُ الرِّضَا وَلَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالْحُرُمَاتُ أَنْوَاعٌ حُرْمَةٌ لَا تَنْكَشِفُ وَلَا يَدْخُلُهَا رُخْصَةٌ بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا وَحُرْمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لَكِنْ تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالرِّدَّةِ بِالْإِكْرَاهِ وَيَجِبُ غَيْرُهَا وَلَا يُبَاحُ الْقَتْلُ وَالزِّنَا بِالْإِكْرَاهِ كَذَا فِي مُلَخَّصِهِمْ وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِبَاحَةَ دَلِيلًا عَلَى تَمَامِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الْعُذْرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عُرِفَ أَنَّ الِاضْطِرَارَ قَدْ تَحَقَّقَ وَأَنَّ الْإِكْرَاهَ صَارَ مُلْجِئًا فَكَانَ تَامًّا وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ لَهُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْإِتْلَافِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ الْفِعْلُ إلَيْهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي إتْلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْإِفْطَارِ بِأَنَّ إكْرَاهَ الْحَلَالِ عَلَى قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ إكْرَاهَ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ أَوْ إكْرَاهَ الصَّائِمِ عَلَى الْإِفْطَارِ فَفَعَلُوا لَا شَيْءَ عَلَى الْفَاعِلِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَلَكِنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ بَهِيمَةٍ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الشَّاةِ وَيُتَصَوَّرُ قَتْلُ الصَّيْدِ مِنْ الَّذِي أَكْرَهَ بِيَدِ الَّذِي بَاشَرَ فَيُنْسَبُ الْقَتْلُ إلَى الْمُكْرِهِ إذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ وَقَدْ تَمَّ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَاشَرَ أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فِي صُورَةِ الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ يَزُولُ بِالْإِكْرَاهِ فَالْتُحِقَ الْإِفْطَارُ بِابْتِلَاعِ الْبُزَاقِ وَالْأَكْلِ نَاسِيًا بِخِلَافِ بِالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ وَإِنْ زَالَ فَصَوْمُ الْعِدَّةِ لَزِمَهُ بِالنَّصِّ فَالشَّرْعُ أَقَامَ الْعِدَّةَ فِي حَقِّهِ مَقَامَ الشَّهْرِ لَا أَنَّ صَوْمَ الْعِدَّةِ يَلْزَمُهُ قَضَاءً بِحُكْمِ الْإِفْطَارِ مَعَ زَوَالِ الْحَظْرِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي بَعْضِ الْعِدَّةِ لَمْ يَلْزَمُهُ قَضَاءً مَا بَقِيَ وَمَا يَجِبُ بِحُكْمِ الْإِفْطَارِ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا قَالَ فِي الزِّنَا قَالَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ إنَّ الْمُكْرَهَ يُقْتَلُ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمْ يَحِلَّ بِهِ الْفِعْلُ فَلَمْ يَتِمَّ الْإِكْرَاهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُبَاشِرُ آلَةً وَلِهَذَا يَأْثَمُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ صَارَ آلَةً لَمَا أَثِمَ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُكْرَهُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَمَا اقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَى الْمُكْرَهِ حَتَّى وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشِرٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا لِاقْتِصَارِ الْفِعْلِ عَلَى الْمُكْرَهِ فَقَالَ إنَّمَا يُقْتَلُ الْمُكْرَهُ بِالتَّسْبِيبِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ حَقِيقَةً فَإِنَّ التَّسْبِيبَ إذَا تَعَيَّنَ لِلْقَتْلِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِلْإِحْيَاءِ بِسَدِّ بَابِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا ابْتِدَاءً خَوْفًا مِنْ الْقِصَاصِ، وَالْقَتْلُ بِالْإِكْرَاهِ بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي النَّاسِ لِلْأَكَابِرِ وَالْمُتَغَلِّبَةِ فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ لَمَا انْسَدَّ الْبَابُ بِقَتْلِ الْمُبَاشِرِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ وَالِاضْطِرَارُ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَغَلِّبِ وَهَذَا كَمَا يُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْآدَمِيِّ فِي الْعَادَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّغَالُبِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَدْفَعُ الْوَاحِدَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَوْ لَمْ تُقْتَلْ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا لَمَا انْسَدَّ بَابُ الْقَتْلِ عُدْوَانًا بِالْقِصَاصِ ثُمَّ أَنَّهُ سَبَبٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ إلَّا بِقَتْلِ ذَلِكَ الشَّخْصِ بِعَيْنِهِ فَصَارَ كَالسَّيْفِ لَهُ بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَ الذِّمِّيِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَإِكْرَاهُ الْحَرْبِيِّ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ جَبْرًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَعُدَّ الِاخْتِيَارُ قَائِمًا فِي حَقِّهِ إعْلَاءً لِلْإِسْلَامِ كَمَا عُدَّ قَائِمًا فِي حَقِّ السَّكْرَانِ زَجْرًا لَهُ حَتَّى صَحَّتْ تَصَرُّفَاتُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ إذَا كَانَ بِحَقٍّ فَقَدْ أَمَرَنَا الشَّرْعُ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ طَلَبًا لِلتَّصَرُّفِ وَمَا كَانَ مَطْلُوبًا شَرْعًا يَكُونُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ غَيْرِ صَحِيحٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بَاطِلًا فَهُوَ مَحْظُورٌ وَذَلِكَ التَّصَرُّفُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ شَرْعًا فَلَا يَثْبُتُ وَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالْمَدْيُونِ الْمَوْلَى إذَا أُكْرِهَ عَلَى التَّطْلِيقِ فَطَلَّقَ صَحَّ طَلَاقُهُ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْإِكْرَاهَ حَقٌّ وَذَلِكَ أَيْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِالْإِكْرَاهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ عِنْدَهُ أَيْ يُتَصَوَّرُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهَا تَسْتَحِقُّ التَّفْرِيقَ عَلَيْهِ كَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ فَأُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ الْإِكْرَاهُ حَقًّا لَا بَاطِلًا فَلَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَأَمَّا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْإِكْرَاهُ بَاطِلٌ فَيَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ.
قَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ) فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ