عَنْ الْمُكْرَهِ أَصْلًا فِعْلًا كَانَ أَوْ قَوْلًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الْإِكْرَاهَ يُبْطِلُ الِاخْتِيَارَ وَصِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ لِيَكُونَ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الضَّمِيرِ فَتَبْطُلُ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ مِثْلُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ عِنْدَهُ.

أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَتَحْقِيقَ الْعِصْمَةِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْأَقَارِيرُ كُلُّهَا وَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفِعْلِ فَإِذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ بَطَلَ حُكْمُ الْفِعْلِ عَنْ الْفَاعِلِ وَتَمَامِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا يُبِيحُ الْفِعْلَ فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْمُكْرَهِ نُسِبَ إلَيْهِ وَإِلَّا فَيَبْطُلُ حُكْمُهُ أَصْلًا وَلِهَذَا قَالَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَقَالَ فِي الْأَقْوَالِ أَجْمَعَ أَنَّهَا تَبْطُلُ وَقَالَ فِي إتْلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْإِفْطَارِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْفَاعِلِ وَلَكِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَقَالَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ بِهِ الْفِعْلَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِمَا قُلْنَا.

وَأَمَّا الْمُكْرِهُ فَإِنَّمَا يَقْتُلُ بِالتَّسْبِيبِ وَقَالَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُكْرَهَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ وَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ إكْرَاهِ الذِّمِّيِّ بَاطِلٌ وَإِكْرَاهُ الْحَرْبِيِّ جَائِزٌ فَعُدَّ الِاخْتِيَارُ قَائِمًا وَكَذَلِكَ الْقَاضِي إذَا أَكْرَهَ الْمَدْيُونَ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ فَبَاعَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا إكْرَاهُ حَقٍّ وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا أُكْرِهَ فَطَلَّقَ صَحَّ لِمَا قُلْنَا

ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَكِنْ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ فَلَوْ اُعْتُبِرَ الْإِكْرَاهُ لِإِعْدَامِ الْفِعْلِ فِي جَانِبِ الْمُكْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ لَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْإِلْغَاءِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَثَرَ الْإِكْرَاهِ تَبْدِيلُ النِّسْبَةِ أَوْ تَفْوِيتُ الرِّضَا أَصْلُ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا لَا إبْطَالَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَثَرِ الْإِكْرَاهِ هُوَ الْأَصْلُ فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِكْرَاهِ وَالْجُمْلَةُ أَيْ الْأَصْلُ الْجَامِعُ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِكْرَاهَ الْبَاطِلَ وَهُوَ الَّذِي يَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ حَتَّى جُعِلَ عُذْرًا فِي الشَّرْعِيَّةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَبِالْإِجْمَاعِ حَتَّى سَقَطَ الْإِثْمُ عَنْ الْمُكْرَهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِلَا خِلَافٍ كَانَ مُبْطِلًا لِلْحُكْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ أَصْلًا فِعْلًا كَانَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ قَوْلًا لِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُبْطِلُ الِاخْتِيَارَ.

أَوْ لِمَا قُلْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُبْطِلُ الِاخْتِيَارَ أَيْ يُفْسِدُهُ وَصِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ لِيَكُونَ الْقَوْلُ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الضَّمِيرِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ فَيَبْطُلُ أَيْ الْقَوْلُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَصْدِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَصِحُّ مِنْ النَّائِمِ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ وَلَا مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لِعَدَمِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الْقَلْبِ وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ مُتَكَلِّمٌ لِدَفْعِ الشَّرِّ لَا لِبَيَانِ مَا هُوَ مُرَادُ قَلْبِهِ فَصَارَ فِي الْإِفْسَادِ فَوْقَ الَّذِي لَا قَصْدَ لَهُ وَلَمْ يُرِدْ شَيْئًا آخَرَ وَكَانَ كُلُّ كَلَامِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقِرَّ لَمْ يُرِدْ إظْهَارَ أَمْرٍ قَدْ سَبَقَ بَلْ قَصَدَ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمَجْنُونِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الْقَلْبِ الَّذِي صِحَّةُ الْكَلَامِ تُبْتَنَى عَلَيْهِ، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ الدَّائِمِ مِثْلُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ عِنْدَهُ فِي إبْطَالِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ أَصْلًا، أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ بِعَدَمِ الرِّضَا بِالِاتِّفَاقِ وَبُطْلَانِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ لِتَحْقِيقِ عِصْمَةِ حُقُوقِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَفُوتَ حُقُوقُهُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، وَتَحْقِيقُ الْعِصْمَةِ هَاهُنَا فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُكْرَهِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا بِزَوَالِ حَقِّهِ فَيَجِبُ إلْحَاقُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.

قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِكْرَاهُ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يُزِيلُ حُقُوقَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ بِهِ أَدَّى إلَى أَنْ لَا تَظْهَرَ فَائِدَةُ حُرْمَةِ الْحُقُوقِ، وَالرِّضَا شَرْطٌ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَيَكُونُ شَرْطًا فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُ الْكُلَّ وَهُوَ صِيَانَةُ الْحُقُوقِ الْمُحْتَرَمَةِ فَوَجَبَ إلْحَاقُ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ لِفَوَاتِ الرِّضَا فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ.

وَذَكَرَ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحَدُّ الْإِكْرَاهِ أَنْ يُخَوِّفَهُ بِعُقُوبَةٍ تَنَالُ مِنْ بَدَنِهِ عَاجِلًا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا وَإِلَّا لَأَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَأَقْطَعَنَّ عُضْوًا مِنْك وَلَأَضْرِبَنَّكَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا أَوْ لَأُخَلِّدَنَّكَ فِي السِّجْنِ وَكَانَ الْقَائِلُ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ تَحْقِيقَ مَا يُخَوِّفُهُ بِهِ فَإِنْ خَوَّفَهُ بِعُقُوبَةٍ آجِلَةٍ بِأَنْ قَالَ لَأَضْرِبَنَّكَ غَدًا أَوْ بِضَرْبٍ غَيْرِ مُبَرِّحٍ بِأَنْ قَالَ لَأَضْرِبَنَّكَ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ أَوْ بِمَا لَا يَنَالُ مِنْ بَدَنِهِ بِأَنْ قَالَ لَأَقْتُلَنَّ وَلَدَك أَوْ زَوْجَتَك فَلَا يَكُونُ إكْرَاهًا. وَالنَّفْيُ عَنْ الْبُلْدَانِ كَانَ فِيهِ تَفْرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ فَهُوَ إكْرَاهٌ كَالتَّخْلِيدِ فِي السِّجْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَجْهَانِ، أَمَّا مَا يَئُولُ إلَى إذْهَابِ الْجَاهِ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ لِلْمُحْتَشِمِ لَأُسَوِّدَنَّ وَجْهَك أَوْ لَأَطُوفَنَّ بِك فِي الْبَلَدِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ لَأُتْلِفَنَّ مَالَك فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إكْرَاهًا إذَا كَانَ يُكْرِهُهُ عَلَى قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ وَإِنْ كَانَ يُكْرِهُهُ عَلَى إتْلَافِ مَالٍ أَوْ عَلَى طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَهُوَ إكْرَاهٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصِيبُ بَدَنَهُ بِهِ مَا لَا يُطِيقُهُ هَذَا كُلُّهُ مِنْ التَّهْذِيبِ.

قَوْلُهُ (وَتَمَامُهُ) بِأَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا يُبِيحُ الْفِعْلُ شَرْعًا كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ أَوْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ الْإِفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يُبِيحُ الْفِعْلَ عِنْدَهُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ كَلِمَةُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015