تَقْصِيرٍ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِلْكَرَامَةِ، أَلَا تَرَاهُ صَالِحًا لِلْجَزَاءِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ النَّاسِيَ اسْتَوْجَبَ بَقَاءَ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ وَجُعِلَ الْمُنَاقِضُ عَدَمًا فِي حَقِّهِ فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْخَاطِئُ.
وَإِذَا جَرَى الْبَيْعُ عَلَى لِسَانِ الْمَرْءِ خَطَأً بِلَا قَصْدٍ وَصَدَّقَهُ عَلَيْهِ خَصْمُهُ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ وَيَكُونَ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ وَضْعًا وَلِعَدَمِ الرِّضَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الْآخَرُ فَهُوَ فَصْلُ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمُلْجِئُ وَنَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُلْجِئُ وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يَعْدَمُ الرِّضَا وَهُوَ أَنْ يَهْتَمَّ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ وَلَدِهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ.
وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةً وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى وَالِابْتِلَاءُ يُحَقِّقُ الْخِطَابَ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ وَذَلِكَ آيَةُ الْخِطَابِ فَيَأْثَمُ مَرَّةً وَيُؤْجَرُ أُخْرَى وَلَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَبَطَلَ الْإِكْرَاهُ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَقَدْ وَافَقَ الْحَامِلُ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا وَلِذَلِكَ كَانَ مُخَاطَبًا فِي عَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ حُكْمِ شَيْءٍ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ جُمْلَةً إلَّا بِدَلِيلِ غَيْرِهِ عَلَى مِثَالِ فِعْلِ الطَّائِعِ وَإِنَّمَا أَثَّرَ الْإِكْرَاهُ إذَا تَكَامَلَ فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ وَأَثَرُهُ إذَا قَصَّرَ فِي تَفْوِيتِ الرِّضَا وَأَمَّا فِي الْإِهْدَارِ فَلَا فَهَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْصِيلِ وَتَرْتِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَالْجُمْلَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ الْبَاطِلَ مَتَى جُعِلَ عُذْرًا فِي الشَّرِيعَةِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْحُكْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكُفْرِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ عَلَيْهِ وَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا وَلَا يُؤَجَّلُ هُنَا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ ثَوَابٌ وَلَا بِتَرْكِهِ عِقَابٌ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ مُسْتَدِلًّا عَلَى أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكْرَهِ مُنْقَسِمَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَمِنْهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ مِنْهَا مَا هُوَ مُرَخَّصٌ لَهُ فِيهِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْإِفْطَارِ وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ وَهَذَا عَلَامَةُ كَوْنِ الشَّخْصِ مُخَاطَبًا فَذَكَرَ الْفَرْضَ وَالْحَظْرَ وَالرُّخْصَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِبَاحَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقِسْمٍ آخَرَ إلَّا أَنَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْإِفْطَارِ وَبَيْنَ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَرْقًا فِي غَيْرِ حَالِ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْإِفْطَارِ قَدْ تَسْقُطُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ فَلَعَلَّ الشَّيْخَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَذَلِكَ أَيْ تَرَدُّدُ الْمُكْرَهِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَامَةٌ لِثُبُوتِ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْخِطَابِ وَيَأْثَمُ الْمُكْرَهُ مَرَّةً بِالْإِقْدَامِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ وَيُؤْجَرُ أُخْرَى كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ الْإِقْدَامَ لَمَّا صَارَ فَرْضًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِجْرَاءَ كَمَا فِي سَائِرِ الْفُرُوضِ أَوْ يَأْثَمُ بِالِامْتِنَاعِ مَرَّةً كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهُمَا إلَى أَنْ قُتِلَ حَرَامٌ وَيُؤْجَرُ أُخْرَى كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهُ عَزِيمَةٌ وَالْإِثْمُ وَالْأَجْرُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْخِطَابِ.
وَلَا يُنَافِي أَيْ الْإِكْرَاهُ الِاخْتِيَارَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَوْ سَقَطَ لَتَعَطَّلَ الْإِكْرَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِيمَا لَا اخْتِيَارَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَإِنَّ الطَّوِيلَ لَا يُكْرَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَصِيرًا وَلَا لِقَصِيرٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ طَوِيلًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ حَمَلَهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْفِعْلِ وَقَدْ وَافَقَ الْمُكْرَهُ الْحَامِلُ فَيَكُونُ مُخْتَارًا فِي الْفِعْلِ ضَرُورَةً إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا بَالُهُ فَلَا يَكُونُ مُكْرَهًا. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِهِ مُخْتَارًا كَانَ مُخَاطَبًا فِي عَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ كَمَا يَعْتَمِدُ الْأَهْلِيَّةَ يَعْتَمِدُ الِاخْتِيَارَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ وَهِيَ بِدُونِ الِاخْتِيَارِ لَا يَتَحَقَّقُ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِطَابِ وَلَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ حُكْمِ شَيْءٍ مِنْ الْأَقْوَالِ مِثْلِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا وَالْأَفْعَالِ مِثْلِ الْقَتْلِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فَيَثْبُتُ مُوجِبُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِكَوْنِهَا صَادِرَةً عَنْ أَهْلِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ إلَّا بِدَلِيلِ غَيْرِهِ عَلَى مِثَالِ فِعْلِ الطَّابَعِ الضَّمِيرِ لِلْحُكْمِ أَيْ لَكِنْ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِدَلِيلِ غَيْرِهِ بَعْدَمَا صَحَّ الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَغَيَّرُ فِعْلُ الطَّابَعِ بِدَلِيلٍ يَلْحَقُ بِهِ يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجِبِهِ فَإِنَّ مُوجِبَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَثْبُتُ عَقِيبَ التَّكَلُّمِ بِهِ إلَّا إذَا لَحِقَ بِهِ مُغَيِّرٌ مِنْ تَعْلِيقٍ أَوْ اسْتِثْنَاءٍ وَكَذَا مُوجِبُ فِعْلِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ مَانِعٌ بِأَنْ تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ تَحَقَّقَتْ فِيهَا شُبْهَةٌ فَكَذَا يَثْبُتُ مُوجِبُ أَقْوَالِ الْمُكْرَهِ وَأَفْعَالِهِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمُغَيِّرِ لِمَا قُلْنَا إنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ عَقْلٍ، وَالْأَهْلِيَّةُ خِطَابٌ وَاخْتِيَارٌ كَأَفْعَالِ الطَّابَعِ وَأَقْوَالِهِ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أَثَّرَ الْإِكْرَاهُ) أَيْ الْإِكْرَاهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ الْإِكْرَاهُ فِي إبْطَالِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَأَيْنَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَقَالَ لَا أَثَرَ لَهُ إلَّا فِي أَمْرَيْنِ فَأَثَرُهُ إذَا تَكَامَلَ بِأَنْ كَانَ مُلْجِئًا فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ إذَا احْتَمَلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ حَتَّى يَصِيرَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ وَأَثَرُهُ إذَا قَصَّرَ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُلْجِئًا كَالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَوْ الْقَيْدِ فِي تَفْوِيتِ الرِّضَا لَا فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مُؤَثِّرًا فِي إهْدَارِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَلَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ لَا يُجْعَلُ فِعْلُهُ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْبَهِيمَةِ