وَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لَكِنَّ الْخَطَأَ لَمَّا كَانَ عُذْرًا صَلَحَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِالْفِعْلِ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ لَا يُقَابِلُ مَالًا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا يُشْبِهُ الْعِبَادَةَ وَالْعُقُوبَةَ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ قَاصِرٌ.
وَصَحَّ طَلَاقُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُ وَصَارَ كَالنَّائِمِ وَلَوْ قَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ لَصَحَّ طَلَاقُ النَّائِمِ وَلَقَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ الرِّضَا أَيْضًا فِيمَا يَعْتَمِدُ الرِّضَا.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ إذَا صَلَحَ دَلِيلًا وَكَانَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْأَصْلِ حَرَجٌ فَيَقِلُّ تَيْسِيرًا وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ حَرَجٌ فِي دَرْكِهِ وَلِنَوْمٍ يُنَافِي أَصْلَ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا حَرَجَ فِي مَعْرِفَتِهِ فَلَمْ يَقُمْ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ وَالرِّضَا عِبَارَةٌ عَنْ امْتِلَاءِ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى الظَّاهِرِ وَلِهَذَا كَانَ الرِّضَا وَالْغَضَبُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَجُزْ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فَأَمَّا دَوَامُ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ بِلَا سَهْوٍ وَلَا غَفْلَةٍ فَأَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ عِنْدَ قِيَامِ كَمَالِ الْعَقْلِ وَلَمَّا كَانَ الْخَطَأُ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذِهِ الْأَحْوَالِ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فَعَلَى هَذِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ بِقَدْرِ الْحَامِلِ عَلَى إيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ فَأَتَتْ الرِّضَاءُ بِالْمُبَاشَرَةِ فَيَتِمُّ التَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الْقُيُودِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَوَاتُ الرِّضَا دَاخِلًا فِي الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُمْتَنِعًا عَنْهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ فَيَكْفِي بِذِكْرِ أَحَدِ الْقَيْدَيْنِ نَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَا وَيَفْسُدُ الِاخْتِيَارُ، نَحْوُ التَّهْدِيدِ بِمَا يَخَافُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاءِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ تَبَعًا لَهَا وَالِاخْتِيَارُ هُوَ الْقَصْدُ إلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِلِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَذَا قِيلَ.
وَالصَّحِيحُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِي قَصْدِهِ مُسْتَبِدًّا وَالْفَاسِدُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُهُ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِيَارِ الْآخَرِ فَإِذَا اُضْطُرَّ إلَى مُبَاشَرَةِ أَمْرِ الْإِكْرَاهِ كَانَ قَصْدُهُ فِي الْمُبَاشَرَةِ دَفْعَ الْإِكْرَاهِ حَقِيقَةً فَيَصِيرُ الِاخْتِيَارُ فَاسِدًا لِابْتِنَائِهِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَدِمْ أَصْلًا وَنَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، نَحْوُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَيْدِ أَوْ الْحَبْسِ مُدَّةً مَدِيدَةً أَوْ بِالضَّرْبِ الَّذِي لَا يَخَافُ بِهِ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ لِعَدَمِ الِاضْطِرَارِ إلَى مُبَاشَرَةِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى مَا هُدِّدَ بِهِ. وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يَعْدَمُ الرِّضَا فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الرِّضَا مُسْتَلْزِمٌ لِصِحَّةِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ أَنْ يَهْتَمَّ أَيْ يَقْصِدَ الْمُكْرِهُ بِحَبْسِ أَبِي الْمُكْرَهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ يَغْتَمَّ الْمُكْرَهُ بِسَبَبِ حَبْسِ أَبِيهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ حَبْسِ زَوْجَتِهِ وَأُخْتِهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَبِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَادِ.
وَكَانَ مَا ذَكَرَ جَوَابَ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ قِيلَ لَهُ لَنَحْبِس أَبَاك وَابْنَك فِي السِّجْنِ أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَفِي الْقِيَاسِ الْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُهَدِّدْهُ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ وَحَبْسُ أَبِيهِ فِي السِّجْنِ لَا يُلْحِقُ ضَرَرًا بِهِ فَالتَّهْدِيدُ بِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ وَإِقْرَارِهِ وَهِبَتِهِ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ إكْرَاهٌ وَلَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ أَبِيهِ يُلْحِقُ بِهِ مِنْ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ مَا يُلْحِقُ بِهِ حَبْسُ نَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ الْوَلَدَ إذَا كَانَ بَارًّا يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ أَبِيهِ مِنْ السِّجْنِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حُبِسَ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ السِّجْنَ مُخْتَارًا وَيَجْلِسُ مَكَانَ أَبِيهِ لِيَخْرُجَ أَبُوهُ فَكَمَا أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ بِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَا فَكَذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِحَبْسِ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ (وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ) أَيْ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَيْ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا أَهْلِيَّةَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالذِّمَّةِ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَحِلُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِطَابِ عَنْ الْمُكْرَهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مَلْجَأً أَوْ لَمْ يَكُنْ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَيْ الْمُكْرَهَ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ أَيْ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبَاشِرَ فَرْضٍ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ بِمَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى قُتِلَ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وَمِنْ أُكْرِهَ عَلَى مُبَاحٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَكَذَا هَاهُنَا وَحَظْرٍ أَيْ مَحْظُورٍ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَإِبَاحَةٍ كَمَا فِي إكْرَاهِ الصَّائِمِ عَلَى إفْسَادِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ وَرُخِّصَتْ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُ تُرَخَّصَ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْإِبَاحَةِ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْفَرْضِ أَوْ فِي الرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ يُبَاحُ لَهُ بِالْإِكْرَاهِ وَلَوْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ فَهُوَ مَعْنَى الرُّخْصَةِ.
وَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَنَّهُ يُبَاحُ وَلَوْ تَرَكَهُ يَأْثَمُ فَهُوَ مَعْنَى الْفَرْضِ فَإِكْرَاهُ الصَّائِمُ عَلَى الْفِطْرِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا مِنْ قَبِيلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِكْرَاهِ