أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصْفَ لَا يَبْقَى عِلَّةً مَعَ الرَّدِّ مَعَ قِيَامِ الْمَلَامَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْأَثَرَ مَعْقُولٌ مِنْ كُلِّ مَحْسُوسٍ لُغَةً وَعِيَانًا وَمِنْ كُلِّ مَشْرُوعٍ مَعْقُولٌ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ بِأَمْثِلَتِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» تَعْلِيلٌ لِلطَّهَارَةِ بِمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ، وَهُوَ الضَّرُورَةُ فَإِنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ وَسُقُوطُ الْحَضَرِ بِالْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] وَالطَّوْفُ مِنْ أَسْبَابِ الضَّرُورَةِ فَصَحَّ التَّعْلِيلُ بِهِ لِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الضَّرُورَةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَوْجَبَ بِهَذَا النَّصِّ الطَّهَارَةَ بِالدَّمِ بِمَعْنَى النَّجَاسَةِ؛ وَلِقِيَامِ النَّجَاسَةِ أَثَرٌ فِي التَّطْهِيرِ وَعَلَّقَهُ بِالِانْفِجَارِ وَلَهُ أَثَرٌ فِي الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَالِانْفِجَارُ آفَةٌ وَمَرَضٌ لَازِمٌ فَكَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي التَّخْفِيفِ فِي قِيَامِ الطَّهَارَةِ مَعَ وُجُودِهِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَحْرَى، أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ لَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِي أَصْلِهِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ أَيْ كَلَامِ الْخَصْمِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَثَرَ مَعْنًى لَا يُحَسُّ أَوْ لَا يُعْقَلُ أَنَّ الْأَثَرَ مَعْقُولٌ أَيْ مَعْلُومٌ مِنْ كُلِّ مَحْسُوسٍ لُغَةً أَيْ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ وَضَرَبَهُ فَأَوْجَعَهُ وَكَسَرَهُ فَانْكَسَرَ وَهَدَمَهُ فَانْهَدَمَ، فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا لُغَاتٌ وُضِعَتْ لِآثَارِ أَفْعَالٍ مُؤَثِّرَةٍ وَعِيَانًا أَيْ بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ فَإِنَّ أَثَرَ الدَّوَاءِ الْمُسَهِّلِ فِي الْإِسْهَالِ وَأَثَرَ الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَأَثَرَ فِعْلِ الْبَانِي فِي الْبِنَاءِ يُعْرَفُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ.

وَمِنْ كُلِّ مَشْرُوعٍ مَعْقُولٍ أَيْ مَفْهُومٍ دَلَالَةً أَيْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ تَعَرُّفِ صِدْقِ الشَّاهِدِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ مَحْظُورِ دِينِهِ قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ) أَيْ كَوْنُ الْأَثَرِ مَعْقُولًا فِي الْمَشْرُوعَاتِ أَيْ مَعْلُومًا بِأَمْثِلَةٍ نَذْكُرُهَا وَذَلِكَ أَيْ ظُهُورُ الْأَثَرِ بِالْأَمْثِلَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ تَعْلِيلٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذَا تَعْلِيلٌ لِلطَّهَارَةِ أَيْ طَهَارَةِ الْهِرَّةِ فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً كَانَتْ طَاهِرَةً بِمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ، وَهُوَ الضَّرُورَةُ، كِلَا الضَّمِيرَيْنِ رَاجِعٌ إلَى مَا فَصَحَّ التَّعْلِيلُ بِهِ أَيْ بِالطَّوْفِ لِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الضَّرُورَةِ أَيْ لِاتِّصَالِ الضَّرُورَةِ بِالطَّوْفِ بِالتَّعْلِيلِ بِهِ لِدَفْعِ نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ، أَوْ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ التَّخْفِيفِ فِي سُؤْرِهِ يَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِعِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَيَتَنَاوَلُ الْمَيْتَةَ أَوْ الدَّمَ فَإِنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الْفَمِ وَلَا غَسْلُ الْيَدِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» إشَارَةٌ إلَى وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّ الْهِرَّةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْنَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ سُؤْرِهَا إلَّا بِحَرَجٍ عَظِيمٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ النَّجَاسَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ وَهَذَا وَصْفٌ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ شَرْعًا فَإِنَّ النَّجَاسَةَ يَسْقُطُ حُكْمًا لِمَكَانِ الْعَجْزِ وَالضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْمَيْتَةَ نَجِسَةٌ بِالْإِجْمَاعِ خَبِيثَةٌ ثُمَّ سَقَطَ اعْتِبَارُ النَّجَاسَةِ حَتَّى حَلَّتْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.

وَكَذَا طَهَارَةُ الْبَدَنِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا قِيَامٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا ثُمَّ إذَا كَانَ نَجَسًا وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَغْسِلُهَا يُصَلِّي مَعَ النَّجَاسَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ النَّجَاسَةُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَا الْحَدَثُ يُسْقِطُ الْعِبَادَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَشَارَ إلَى وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ شَرْعًا وَعَقْلًا.

أَوْجَبَ أَيْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا النَّصِّ وَهُوَ حَدِيثُ الْمُسْتَحَاضَةِ الطَّهَارَةَ بِالدَّمِ أَيْ بِسَبَبِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّجَاسَةِ الَّذِي لَهُ أَثَرٌ فِي إيجَابِ التَّطْهِيرِ لَا بِاعْتِبَارِ مَعَانٍ أُخْرَى مِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا وَمَائِعًا وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَهَا أَثَرٌ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ وَعَقْلُهُ أَيْ إيجَابُ الطَّهَارَةِ بِالِانْفِجَارِ الَّذِي لَهُ أَثَرٌ فِي الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ؛ لِأَنَّ انْفِجَارَ دَمِ الْعِرْقِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ مَعَهُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالتَّوَضُّؤِ بِخِلَافِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَادُهُ مُسْتَدَامٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ بِهِ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالتَّوَضُّؤِ لِلْحَرَجِ، ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إشَارَةً إلَى التَّعْلِيلِ لِحُكْمٍ آخَرَ بِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ فَقَالَ: وَالِانْفِجَارُ آفَةٌ وَمَرَضٌ لَازِمٌ لَيْسَ فِي وُسْعِهَا رَدُّهُ وَإِمْسَاكُهُ وَلِهَذَا تُرَدُّ الْمَبِيعَةُ بِهِ فَكَانَ لَهُ أَيْ لِلِانْفِجَارِ اللَّازِمِ أَثَرٌ فِي التَّخْفِيفِ وَذَلِكَ التَّخْفِيفُ قِيَامُ الطَّهَارَةِ مَعَ وُجُودِهِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ وَقْتُ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ «قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ حِينَ سَأَلَتْ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ تَوَضَّئِي وَصَلِّي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» إشَارَةٌ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015