باختياره من عمله، كما يستخرج له العلم من الجهل، والتوحيد من الشرك بلطف قدرته، فمن تذكر به وتبصر به أقامه مقام التوحيد من الحكمة، والمعنى الثاني المؤمن عنده، لا يتناول شيئاً إلا فاقة أو ضرورة، فقد حلّت له وإنْ حرمت على غيره، وهذا هوالمؤمن الصديق وقد قيل لابن المبارك يظهر بعد المائتين عدل فقال: تذاكرنا ذلك عن حماد بن سلمة، فغضب وقال: إن استطعت أنْ تموت بعد المائتين فمت، فإنه يحدث في ذلك الزمان أمراء فجرة ووزراء ظلمة وأمناء خونة، وقراء فسقة حديثهم فيما بينهم، التلاوم يسمون عند الله الأنتان، وقال بعض السلف الصالح: إني لأستحي من الله عزّ وجلّ أنْ أسأله بعد المائتين أن يرزقني حلالاً، ولكني أسأله رزقاً لا يعذبني عليه، وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما ترك لنا بنو فلان من الحلال شيئاً، يعني الملوك والأمراء، ويقال إن عليَّا ًرضي الله عنه، لم يأكل بعد قتل عثمان، ونهب الدار إلاّ طعاماً مختوماً عليه، وروي في الخبر العامل الذي أراد عليّ رضي الله عنه، أنْ يستعمله على صدقات قال: فدعا بطينة مختومة طننت أنّ فيها جوهراً أو تبراً ففض ختامها، فإذا فيها سويق شعير فنثره بين يدي وقال: كل من طعامنا، فقلت: أتختم عليه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم هذا شيء اصطفيته لنفسي، وأخاف أنْ يختلط فيه ما ليس منه، والحديث فيه طول فاختصرت هذا منه.
وروي أنّ جماعة من الصحابة ما شبعوا من الطعام منذ قتل عثمان رضي الله عنه لاختلاط أموال أهل المدينة بنهب الدار، منهم ابن عمر وسعد وأسامة بن زيد رضي اللّّه عنهم، وكان يوسف ووكيع بن الجراح يقولان: الدنيا عندنا على ثلاث منازل، حلال وحرام وشبهات، فحلالها حساب، وحرامها عقاب، وشبهاتها عتاب، فخذ من الدنيا ما لا بدَّ لك منه فإن كان ذلك حلالاً كنت زاهداً، وإن كان شبهة كنت ورعاً وكان في عتاب بسير، وقد روينا عنهما أنهما قالا: لو زهد أحد في زماننا هذا حتى يكون كأبي ذر وأبي الدرداء في الزهد ما سميناه زاهداً قيل: ولِمَ؟ قال: لأن الزهد عندنا إنما يكون في الحلال المحض، والحلال المحض لا يعرف اليوم، ومات يوسف ووكيع قبل المائتين، وقد كان وكيع بن الجراح أشبه العلماء بالسلف، وكان يشبه بعبد الله بن مسعود وقد كان يشدد في الطعمة فسئل عن الحلال، فجعل يعزره ويقول: أين الحلال؟ وكيف لي بالحلال؟ ثم قال: لوسألنا مسترشد عن علمنا في الحلال فقلنا له: كل أصول البردي وألقي ثوبك وادخل في الفرات قيل: وأنت يا أبا سفيان من أين تأكل؟ قال: آكل من رزق الله وأرجو عفو اللّّه، وقد كان بشر بن الحارث من المتقدمين، سئل عن الحلال قيل له: من أين تأكل يا أبا نصر؟ فقال: من حيث تأكلون،