فإن رأيت الصفرة فهي علامة شبهة الحلال رددتها إليه وحكمت عليها به، كما أنّ الخضرة أقرب إلى السواد، فإن اجتمع في لون صفرة وخضرة فهي الشبهات المخلطة في الشيء، فانظر إلى الأغلب منها الأكثر، فاحكم عليه، فإن كانت الصفرة هي الأكثر والأغلب، فهذا شبهة الحلال، تناول منه غير متسع فيه إذ ليس حلالاً صافياً وهذا مثل أموال التجار والصناع المختلطة بأرزاق الجند والمعاملات، وإنْ رأيت الخضرة أكثر وأغلب فهذا شبهة الحرام، خذ منه ضرورتك إذ ليس بشبهة صافية، وهذا مثلا أملاك أولياء السلطان، لالتباس ملك أيديهم في خدمتهم لأمرائهم حتى تري البياض المحض الذي هو علامة الحلال فخذ كيف شئت واتسع، لاجناح عليك على أنك لا تكون زاهداً بذلك، وهذا مثل لفيء المشركين والغنائم في سبيل الله، ومثل المواريث الطيبة وما أنبتت الأرض التي هي غير مغصوبة، ومثل ماء السماء والسيح في الأنهار وصيد البر والبحر، وإنْ رأيت السواد الغريب فهو علامة الحرام، فاجتنبه ولا تأخذ منه شيئاً، فإن فعلت كنت بذلك فاسقاً وأكل الحرام من الكبائر، وهذا مثل المغصوب والجنايات، وما أكل بأسباب المعاصي وما تملك من غير طيب نفس من الواهب، واعلم أنّ الحلال والحرام فرعان للتقوى والفجور والعلم والجه، والعلم والتقوي هما حلالان للمتقين العلماء، فإذا كثر المتّقون ووجد المؤمنون كان الحلال أظهر وأكثر، ووجود الحرام بظهوره وكثرته، بكثرته وجود الجهل والفجور وهما حالا الجاهلين الفجار، فإذا كثر الجاهلون وظهر الفاسقون كان الحرام أغلب وأكثر، وأصل وجود الحلال في الكافة عدل الأئمة واستقامة الولاة، وطاعة أوليائهم فيما لهم معهم في سبيل الله عزّ وجلّ لصلاح الدين وحيطة المسلمين، كما إنّ أصل ظهور الحلال وانتشاره هوالرعية، فإذا قل ذلك وكان الأمر على ضده غمض الحلال واختفى، فظهر الحرام وفشا، فكان الحلال قليلاً عزيزاً، وكان في خصوص من المسلمين يخص الله به من يشاء ويصرفه إلى من أحب، كيف أحب من طريق التوفيق والهداية وبمعنى العصمة والوقاية؟
وقد جاء في الخبر إذا فسدت أديان الناس فسدت أرزاقهم، وقال بعض أهل التفسير في قوله عزّ وجلّ: (وَكَذلكَ نُوَلِّي بَعضِ الظََالِمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأنعام: 129، قال: إذا فسدت أعمال الناس، جعل عليهم أئمة يشبهون أعمالهم، وقد روينا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: رزق المؤمن، مثل قطر الحب، فهذا يحتمله معنيان، أحدهما الضيق والقلة والثاني في الصفاء، وهذا على معنى ما قال سهل رحمه الله: لو كانت الدنيا دماً غبيطاً لكان قوت المؤمن منها حلالاً، فهذا على معنيين، أحدهما أنّ المؤمن موفق معصوم قد عمل لله عزّ وجلّ بما علم، والله قد حفظه من حيث لا يعلم بأن يستخرج له الحلال من الحرام