الشهوانية، كما أنّ الزهد سهل على من أمده الله بروح التأييد باليقين، وعزيز على من ابتلي بحبّ الدنيا، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل الأعمال والذي نقيم به وجوهنا عن الله عزّوجلّ هو الورع، فقال له أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدقت، ولعمري أنّ اليقين إذا وجد والزهد إذا حصل سهل والورع والإخلاص وهما عمدة الأعمال.
وحكي عن يوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي وغيرهم من عباد أهل الشام أنّ قائلهم يقول: منذ ثلاثين سنة ماحاك في صدري شيء إلاّ تركته، وبعضهم يقول: منذ أربعين سنة ما وقف قلبي عن شيء وتخالج فيه إلاّ تركته، وقال بعضهم: منذ ثلاثين سنة ما أبالي على أي حال رآني الناس إلاّ أن يكون حاجة الإنسان، وحكي أنّ بعض الورعين وقع منه دينار فانكبّ ليأخذه، فوجد دينارين فلم يعرف ديناره منها فتركهما معاً، وحكي أنّ امرأة من المتعبدّات من أهل القلوب سألت إبراهيم الخواص عن تغير وجدته في قلبها فقال: عليك بالتفقد فقالت: قد تفقدت فما وجدت شيئاً أعرفه، فأطرق ساعة ثم قال: ألاّ تذكرين ليلة المشعل فقالت: بلى فقال: هذا التغير من ذلك، فذكرت أنها كانت تغزل فوق سطح لها فانقطع خيطها، فمر مشعل السلطان فغزلت في ضوئه خيطاً وأدخلت في غزلها، ونسجت منه قميصاً فلبسته قال: فنزعت القميص وباعته وتصدقت بثمنه، فرجع قلبها إلى الصفا، قد حكي عن ذي النون المصري رحمه الله فوق ذلك أنه لما سجن لم يأكل طعاماً ولم يشرب أياماً، فوجهت إليه امرأة يعرفها من العابدات بطعام إلى السجن وقالت: هذا من حلال، فلم يأكله فقالت له بعد ذلك، فقال: ذلك الطعام من حلال إلاّ أنه جاءني في طريق حرام فلم آكله فقالت: وكيف ذلك قال: جاءني في يد السجان وهو ظالم فلذلك لم آكله وهذه خصال الورعين، والورع هو باب الزهد ومفتاح الخوف وحقيقة الصدق، فعموم الورع أول عموم الزهد وخصوصه أول خصوص الزهد.
فينبغي للعبد أن يبتدئ بطلب الحلال فيكون هو همه وقصده، فيجعل ما استطاب من المكاسب وأعلى ما قدر عليه مما يسلم فيه، فيجعل ذلك لحاجة نفسه فيما يطعم ويلبس، ويجعل مادخل عليه من الشبهات مما في نفسه منه جزازات في مؤونة عياله وفيما يرتقق به من مؤونة البيت مما لا يطعم ولا يلبس، مثل الحطب والبز وأجرة البيت وما أشبه ذلك، وسنذكر تمثيل ذلك بصور الألوان حتى تعرفه، وفي هذه رخصة وله فيه مجاهدة وحسن نية ومعاملة إذا أخذ نفسه به وصبر عليه، وكان ذلك من باله وهمه فاحتسب في ذلك ما عند الله عزّ وجلّ، وتحرى بذلك لدين الله عزّ وجلّ، فإنّ الله عزّ وجلّ يشكر له سعيه، ويجزل عليه أجره، وهذا طريق يوصل إلى الله عزّ وجل وهو محجة كثير من السلف، ولو أنّ عبداً شك في شيء فتحرز منه شكر الله له نيته، وإن كان قد أخطأ حقيقة الشيء عنده فكان