أحوالاً أيضاً ومقامات من حيث كان عليهم في ذلك تكليف وعبادات، ويقال: إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر وأصحابه في السفر ومعاملوه في الأسواق فلا تشكّوا في صلاحه، وشهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشهادة فقال: ائتني بمن يعرفك، فأتاه رجل فأثنى عليه خيراً.
فقال له عمر رضي الله عنه: أنت جاره الأدنى الذي تعرف مدخله ومخرجه قال: لا قال: فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق قال: لا قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذي يتبين به ورع الرجل قال: لا قال: أظنك رأيته قائماً في المسجد يصلي يخفض رأسه طوراً ويرفعه له زمرة بالقرآن قال: نعم، قال: اذهب فلست تعرفه فقال مرة: أنت القائل ما لا تعلم ثم قال للرجل: اذهب فائتني بمن يعرفك، وقد كال من سيرة السوقة فيما سلف أنه كان للبائع دفتران للحساب أحدهما ترجمته مجهول، فيه أسماء من لا يعرفه من الفقراء الضعفاء، وذلك أنّ المسكين والضعيف كان يرى المأكول فيشتهيه أو يحتاج إليه ولا يمكنه أنْ يشتريه فيقول للبائع: أحتاج إلى خمسة أرطال من هذا أو عشرة وليس عندي ثمنه فيقول: خذ إلى ميسرة فإذا رزقت فاقضِ، ويكتب اسمه في الدفتر المجهول قال: ولم يكن من يفعل هذا من خيار المسلمين بل كان الخير من الباعة من لا يكتب اسمه في دفتره ولا يجعله ديناً حتماً عليه ولا مظلمة عنده، ولكن يقول: خذ حاجتك مما تريد فإن وجدت فاقضني وإن لم تجد فأنت في حل، لا تضيقن قلبك لذلك، وهذا طريق قد مات فمن قام به فقد أحياه فكان مثل هؤلاء في المتقدمين أكثر من أنْ يسعهم كتاب، وكان من ينصح دقائق النصح وشدد على نفسه غاية التشديد وسمح لإخوانه نهاية الجود أكثر من ذلك، وإنما ذكرنا هؤلاء لتنبيه الغافلين على أعمالهم ونكشف بعض ما عفا من طريقهم، ولم يكن هؤلاء المذكورون من السوقة من خيار الناس كلهم إنما كان الأخيار المسجدية العباد والنساك المنقطعون إلى الله الزهاد، فإذا حصلت كفاية السوقي في بعض يومه فليجعل بقيته لأخيه، فقد كان بعض السلف منهم من ينصرف من حانوته بعد صلاة الظهر ويجعل نصف يومه لربه، ومنهم من ينصرف بعد العصر فيكون آخر يومه لآخرته.
وكان بعضهم إذا حصلت كفايته في يومه وتأتي قوت عياله في أي وقت من نهاره غلق حانوته وانصرف إلى منزله أو مسجده يتعبد بقية يومه، وكان منهم من إذا ربح دانقاً أو قيراطاً انصرف قناعة وزهداً أو قلة حرص على الدنيا، وأعجب من ذلك ما سمعت عن حماد بن سلمة أنه كان يبيع اللحم في سفط بين يديه، فكان إذا ربح حبتين رفع سفطه وانصرف.
وقال إبراهيم بن يسار: قلت لإبراهيم بن أدهم أمر اليوم أعمل في الطين فقال: يا