فإذا طمع فيهم انقطعت عصمته، فإذا سكن إليهم ضلّ، فمن فضل الغنى على الفقر بعد الأخبار التي وردت في تفضيل الفقر والفقراء والغنى والأغنياء فأحسن حاله الجهل بالسنن لإيثار الرأي والهوى على ما فيه أثر وسنّة، لأن الأثر إذا جاء في شيء لم يكن للرأي فيه مدخل، وكان في مخالفته مع العلم به عناد ومحادة، نعوذ بالله من الجهل والهوى ونسأله التوفيق للعلم والتقوى.
فإن لم يكن للفقير معلوم من الدنيا وكان رزقه قد أجرى على أيدى العباد من غير تعويض منه لهم من صنائع الدنيا معتاد، فقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن هذا المال مال الله فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه: فكان كالآكل ولا يشبع، وروينا من أتاه شيء من هذا المال من غير مسألة ولا استشراف فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه، وفي لفظ آخر فلا يرده فإن كان محتاجاً إليه وإلاّ فليصرفه إلى من هو إليه أحوج منه، وروينا عن الحسن وعطاء حديثاً مرسلاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أتاه رزقه من غير مسألة فردّه فإنما هو يرده على الله، وروينا عن عابد بن شريح عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما لمعطي من سعة بأعظم أجراً من الآخذ إذا كان محتاجاً، وقال بعض العلماء: لو هرب العبد من رزقه لطلبه حتى يصل إليه كما لو هرب من الموت لأدركه، وقال أبو محمد رحمه الله: لو أنّ العبد سأل ربه فقال: لا ترزقني لما استجاب له وكان عاصياً، ويقال له: يا جاهل لا بدّ أن أرزقك كما خلقتك، وقد حدثنا بعض العارفين أنه زهد في الدنيا فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار، وقال: لا أسأل أحد أشياء حتى يأتيني رزقي إن كان لي رزق، قال: فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعاً لم يأته شيء حتى كاد أن يتلف، قال: يارب إن أحييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلاّ فاقبضني إليك فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي لا أرزقنّك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس، فدخل المصر للأمر، وأقام بين ظهراني الناس، فجاءه هذا بطعام، وهذا بأدام، وهذا بشراب، فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى الله إليه: أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا أما علمت أني أرزق عبد بأيدي عبادي أحبّ إليّ من أن أرزقه بيد القدرة.
وقال بعض المنقطعين إلى الله من العارفين: كنت ذا صنعة جليلة، فأريد مني تركها، فحاك في صدري: من أين المعاش؟ فهتف بي هاتف: لا أراه، تنقطع إليّ وتتهمني في رزقك على أن أخدمك وليّاً من أوليائي، أو أسخر لك منافقاً من أعدائي، وفي خبر عن بعض السلف: أوحى الله تبارك وتعالى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني واتعبي من خدمك، وقال بعض المجاورين بمكة: كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل الله،