وأما الطبقة الثالثة فهم أغنياء الفقراء وهم الأجواد الأسخياء أهل البذل والعطاء، يأخذون ويخرجون، ولا يستكثرون ولا يدّخرون، إن منعوا شكروا المانع لأنه هو المعطي فصار منعه وإنْ ضيّق عليهم حمدوا الواسع لأنه هو المحمود فصار ضيقه رخاء، وإنْ أعطوا بذلوا وآثروا فهم الزاهدون في الدنيا لأنهم موقنون فكفاهم اليقين غنى.

وقال إبراهيم بن أدهم لشقيق بن إبراهيم حين قدم عليه من خراسان: كيف تركت الفقراء من أصحابك؟ فقال: تركتهم إن أعطوا شكروا، وإن أعطوا آثروا فقّبل رأسه وقال: صدقت ياأستاذ وقد كان بشر يقول: الفقراء ثلاثة؛ فقير لايسأل وإن أعطى لم يأخذ؛ فهذا مع الروحانيين في عليين، وفقير لا يسأل وإن أعطى أخذ فهو مع المقربين في حظيرة القدس، وفقير يسأل عند فاقته؛ فهذا مع الصادقين، وصدقه في حاله كفّارة مسألته، ودفع إلى إبراهيم بن أدهم ستون ألفاً وكان عليه دين وبه حاجات إليها فردّها فعوتب في ذلك فقال: كرهت أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء لستين ألفاً، وقد كانت عائشة رضي الله عنها تفرق مائة ألف وإنّ درعها لمرقوع فقالت لها الخادمة: لو اشتريت لك بدرهم لحماً تفطرين عليه فقالت: لو ذكرتني لفعلت، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصاها فقال: إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تنزعي ثوباً حتى ترقعيه فأما معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للفقراء: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلعل متوهماً لم يتدبر أول الكلام فظن أنّ هذا تفضيل للأغنياء على الفقراء وإنما هو تحقيق لقوله الأول: قولوا كذا وكذا، فإنه لا يسبقكم أحد قبلكم، ولا يدرككم أحد بعدكم، فقالوه، فلما سمع الأغنياء بذلك فقالوا كقولهم هجس في قلوب الفقراء منه شيء، فاستفتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليتثبتوا في قوله فقال: الأمر كما قلت لكم لا يسبقكم أحد قبلكم إذ قد صحّ منه هذا القول في الأول وهو معصوم فيه، فلو لم يكن كذلك لنقض آخر قوله أوله، ولا يجوز ذلك، وأيضاً فإن حمل على ظاهره كما تأوله، فإنه فضل الله تعالى في الدنيا، لا تفضيل لهم به في الآخرة على مقامات الفقراء، إلاّ إنّ الأولى قد قامت بفضلهم، ويصلح بمعناهم فضل أعطاهم الله تعالى بهذا القول الذي قلتموه، زادهم الله به، لا أنه أفضل من مقامكم وحالكم بغيره، إذ قد ثبت فضلكم عليهم بوصف الفقر وحال الصبر بغير هذا الذكر؛ وهذا التسبيح رجحان لكم تماماً على فضلكم بغيره، وهذا القول للأغنياء تفضيل من الله عليكم ورحمة، إلاّ إنهم يفضّلون به عليكم، ونحن فلم نقل: ليس الغنى طريقاً للأغنياء إلى الله وإنما فضّلنا طريق الفقراء لأنهم الأمثل فالأمثل بالأنبياء، وعن الحسن في قوله عزّ وجلّ: (وَمَا يَسْتوِي الأحْياءُ ولاَ الأمْوَاتُ) فاطر: 22، قال: الفقراء والأغنياء، فجعل الفقراء أحياء بمولاهم، وجعل الأغنياء موتى بدنياهم، وقال الثوري رحمه الله: إذا رأيت الفقير يداخل الأغنياء فاعلم أنه مراء، وإذا خالط السلطان فاعلم أنه لصّ، وقال بعض العارفين: إذا مال الفقير إلى بعض الأغنياء نحلت عروته،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015