أربعين درهماً، والأصل في ذلك أنّ الله تبارك وتعالى قال عزّ من قائل: (وَإِذْ وَاعَدنَا مُوسى أرْبعينَ لَيْلَةً) البقرة: 51 فإذا فسح له في تأميل أربعين فالادخّار من الأمل؛ فإن أمل حياة أربعين يوماً جاز له أن يدّخر لأربعين، ومن قصر أمله إلى يوم وليلة لم يدّخر إلاّ ليومه وليلته، فترك الادخّار مقتضى قصر الأمل، وقد جعل غنى الفقير في أربعين درهماً فهذا لعموم الفقراء، فأما خصوصهم فإن غناءهم غداء يوم أو عشاء ليلة لقصر أملهم، كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً: استغنوا بغنى الله عزّ وجلّ، قيل: وما غنى الله تبارك وتعالى؟ قال: غداء يوم أو عشاء ليلة، ومن فضل الفقير أن لا يهتم برزق غد كما إن الله تبارك وتعالى لا يطالبه بعمل غد قبل مجيئه، ولأنّ الرزق معلوم مقسوم والوكيل حفيظ قيوم، وأن يكون راضياً بفقره شاكراً عليه ويغتبط بالفقر لعظيم نعمة الله عزّ وجلّ عليه فيه، ويخاف أن يسلب فقره أشد من خوف الغني أن يسلب غناه لشدة اغتباطه به.
وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معشر الفقراء أعطوا الله عزّ وجلّ الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلاّ فلا، وروى عبد الرحمن بن سابط عن عليّ عليه السلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث طويل: أحب العباد إلى الله عزّ وجلّ الفقير القانع برزقه، الراضي عن الله عزّ وجلّ، وينبغي أن يغتمّ بالاتّساع ويفرج بالضيقة والمصيبة، ويحبّ المساكين ويفضّلهم على أبناء الدنيا، ويرحم الأغنياء ولا يذمّهم لأجل غناهم، ويؤثر الفقراء ويقربهم ويحسن على الفقير خلقه، ويحمل معه صبره، ويستر بالتعفف فقره، ويظهر الغنيّ ولا يكشف فقره بالتكرّه له والشكوى، في الخبر عن الله عزّ وجلّ: إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنيّ مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته، وقال موسى: يا رب مَنْ أحباؤك من خلقك حتى أحبّهم لأجلك؟ فقال: كل فقير فقير التكرار فيه لمعنيين؛ أحدهما المتحقق بالفقر، والثاني الشديد الحاجة والضرّ، وقال عيسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني لأحب المسكنة وأبغض الغنى، وقيل: كان من أحبّ أسمائه إليه أن يقال له: يامسكين، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعائه الذي تلقاه من ربه وأمره به: أسألك الطيّبات، وفعل الخيرات، وحبّ المساكين؛ ومما يعتبر به فضل الفقر على الغنى أنّ أفضل الخلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن شاركه وقارنه بمعنى وصفه فهو الأفضل لأنه الأمثل فالأمثل وهم الفقراء، وصفهم الله عزّ وجلّ بوصفه فقال تعالى: (وَلاَ عَلَى الَّذينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) التوبة: 92 الآية - فلما شاركوه في العدم وكان حال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأفضل والأتمّ دلّ على فضل حالهم على غيرهم.
وقد قال الله عزّ وجلّ: (إنَّمَا السَّبيلُ عَلَى الَّذينَ يَسْتأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) التوبة: 39،