فأما إن كان قد اعتقد ترك شهوة لمعنى دخل علىه منها يخرجه من الورع، أو يعزم على المجاهدة، ثم أتى بها؛ فهذا اختبار من الله سبحانه وتعالى لينظر كيف يعمل في الوفاء بالعقد، فأحبّ إليّ أن لا ينال منها شيئاً وليتعلّل ويدافع عن نفسه بالمعاريض والمعاني حتى لا يفطن به أنه قد تركها للمجاهدة، فيكون قد فعل الوصفين معًا؛ الوفاء لعقد في تركها، والتورية بلطيف الحيلة من الفطنة له في قصده؛ وهذا طريق المريدين وصفات المتّقين؛ وهو الطريق الأدنى الذي ذكراه أولاً، فإن ظهر قرب الله تعالى منه وغلب نظره إليه أغناه عن الحيلة والاحتىال لقربه وشهادته ذا الجلال والإكرام؛ وهو الطريق الأعلى الذي ذكرناه آخراً، وهذا للموقنين، فأما إنْ كان الغليظ الخشن هو الأحل في الحكم وأبعد من الشبهة فهو الأطيب والأفضل في العلم فلا يأكل إلاّ منه، يقال: أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنبه، فلعل الله تعالى أن يشر له ترك لقمة شبهة لذيذة في الطعم إن كانت كريهة في الحكم، يتركها لأجله فيغفر له ما سلف من ذنبه، إنه غفور شكور، قيل: غفور لذنوب كثيرة، شكور لعمل يسير، كيف وقد صف المؤمنين أولي الهدى والتوحيد وذوي الرحمة والرشد بحسن التفقد في الطعمة فقال: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِِّّهمْ وَزِدْنَاهمْ هُدًى) الكهف: 13، (وَرَبطْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقَالُوا) الكهف: 14 يعني بشهادتهم بالتوحيد، فكان من قيامهم حسن تفقدهم في المأكول، ومراقبتهم للواحد في قولهم: (فَابْعَثَوا أَحدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلى المدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكِى طَعَامًا فَْليأْتِكُمْ بِرِزقٍ منهُ) الكهف: 19 يعني أيها أحلّ وأفضل فأمروا رسولهم يتحرى الحلال إذ قاموا لذي الجلال والإكرام لما أمرهم بأكله إذ قدمه على الأعمال الصالحة في قوله تعالى: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) المؤمنون: 51، ورعًا منهم وتقوى، وكذلك فافعل لتتبع سبيل المؤمنين فتكون معهم ولا تتبع سبيل المجرمين الظالمين فتحشر معهم.
هذه رياضة المريدين وطريق المجاهدين، فأما العارفون فليس لهم في الأكل تجربة وتقسيم إذا أطعموا تقلّلوا وشكروا، فإن رأوا له مكانًا آثروا، وإن جوعوا عملوا وصبروا، قالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل على أهله فيقول: هل عندكم من شيء فإن قالوا نعم أكل، وإن قالوا لا قال إني صائم، وكان يقدم إليه الشيء فيقول: أما إني كنت أردت الصوم ثم يأكل، وفي الخبر: أنه خرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومًا فقال: إني صائم ثم دخل فقالت عائشة: قد أهدي لنا حيس فقال: قد كنت أردت الصوم ولكن قرّبيه وكانت بينه وبين الله