دخلت عليه وبشرني وقبلني وكان في إرادة وتذلل فقلت له: أحبّ أن تصف لي بدايتك وما كنت تقوت به، فقال: في كل سنة ثلاثة دراهم؛ كنت آخذ بدرهم دبساً، وبدرهم سمنًا، وبدرهم دقيق الرز، وأشوبه مخلصًا ثلاثمائة وستين أكرة آخذ ليلة أكرة أفطر عليها، فقلت: الساعة كيف تعمل؟ فقال: أكلاً بلا حدّ ولا توقيف.

وحدثونا في أخبار الملوك أنّ ملك الهند أهدى إلى المنصور تحفًا منها أنه وجه إليه بفيلسوف طبيب قال: فأنزله المنصور وأحسن إليه، فلما دخل عليه قال الفيلسوف: قد جئتك يا أمير المؤمنين بثلاث خصال يتنافس الملوك فيها لا نصنعها إلاّ لهم قال: وماهي؟ قال: أخضب لحيتك بسواد لا تنصل أبدًا ولا تتغير عن حالها، قال: وما الخصلة الثانية؟ قال: أعالجك بعلاج تتسع به في المأكل فتأكل أي شيء شئت فلا تتخم ولا يؤذيك الطعام، قال: وما الثالثة؟ قال: أقوّي صلبك بقوة تبسط إلى الجماع فتجامع ما شئت لا تملّ من ذلك ولا يضعف بصرك ولا ينقص من قوتك، قال: فأطرق المنصور ثم رفع رأسه إليه فقال: قد كنت أظن أنك أعقل مما أنت، أما السواد فلا حاجة لي به؛ فإن ذلك غرور وزور، والشيب هيبة ووقار، ولم أكن لأغير نورًا جعله الله تبارك وتعالى في وجهي بطلمة السواد، وأما ما ذكرت من الأكل فوالله ما أنا بشره، وما لي في الاستكثار من الطعام حاجة، لأنه يثقل الجسم ويشغل عن النوائب وأقل شيء فيه كثرة اختلافي إلى الخلاء فأرى ما أكره وأسمع ما لا أحب، وأما ماذكرت من النساء فإن النكاح شعبة من الجنون، وما أقبح بخليفة مثلي يجثو بين يدي صبية، ارجع إلى صاحبك مذمومًا مدحورًا فلا حاجة لي بما جئت به.

وحدثونا عن بعض هذه الطائفة قال: أتيت قاسمًا الجوعي فسألته عن الزهد أي شيء هو؟ فقال لي: أي شيء فيه؟ فقلت: قالوا الزهد قصر الأمل، فقال: وأي شيء سمعت فيه؟ فقلت: قالوا الزهد ترك الادخار، فقال: حسن؛ حتى عددت عليه أقوالاً فسكت، فقلت: أي شيء تقول أنت؟ فقال: أعلم أنّ البطن دنياً العبد وبمقدار ما يملك من بطنه يملك من الزهد، وبمقدار ما يملكه بطنه تملكه الدنيا، وعلى هذا المعنى قال وهب بن منبه حكيم هذه الأمة: لكل شيء وسط وطرفان، فإذا أمسكت أحد الطرفين مال الآخر، وإن أمسكت الوسط اعتدل الطرفان، فكذلك البطن وسطاً بين الجوارح إن امسكتها اعتدلت الأطراف السمع والبصر واللسان والفرج والرجلان، وكذلك كان شيخنا ابن سالم يقول: إذا أعطيت البطن حظه من الشبع طلبت كل جارحة حظها من اللهو فجمحت بك النفس إلى الهلكة، وإذا منعت البطن حظه قصرت عنك كل جارحة عن حظها فاستقام القلب لذلك.

وكان بشر بن الحارث قد اعتل فسأل عبد الرحمن المتطبب عن شيء يوافقه من المأكول فقال له عبد الرحمن: تسألني؟ فإذا وصفت لك لم تقبل مني، فقا له بشر: صف

طور بواسطة نورين ميديا © 2015