وهي آخر حجة حجّها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول فرض الحج، لأنّ سورة المائدة مدنية بإجماع من القراء، وهي من آخر ما نزل من القرآن باتفاق من الفقهاء، ولم يلبث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول هذه الآية إلاّ ثلاثة أشهر وثلاثة أيام اتفق عليه أهل التاريخ، لأنها نزلت يوم التاسع من ذي الحجة من آخر يوم عرفة وقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاثنتي عشرة خلون من ربيع الأول، فقال الله تعالى بعد نزول الأحكام وأحكام الحلال والحرام: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ) المائدة: 3، والإكمال هو إتمام الشيء الذي بعضه متعلق ببعض، فلا يقال أكمل لما كان بعضه قبل بعض، فإذا وجد جميعه قيل: قد أكمل وتمّم؛ هذا هو حقيقة هذه الكلمة، فلما كان الإيمان قد تقدم بمكة، وأنزل الله تعالى الفرائض والدين شيئاً بعد شيء، وكان الإكمال من الدين دلّ أنّ بعضه متعلّق ببعض إلى أكمله، فصارت الأعمال متعلقة بالإيمان؛ وهما الدين المكمل.
وقال بعض السلف: من لم يقل من المرجئة أن إبليس مؤمن لأنه قد أقرّ بالإيمان وقال به انكسر عليه مذهبه، ولعمري أنّ إبليس لعنه الله موحد لله تعالى عارف به إلاّ أنه لم يعمل بالتوحيد ولم يطع من عرفه وآمن به فكفر، فأما تعلقهم بقول الله تعال: (فَأَثَابَهُمْ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار) المائدة: 85، فإنه شرط القول للجنات أو علق الجنات بالقول فإنما ذلك إثبات منه تعالى لتحقيق القول، وأنه قول إيمان ويقين، وأنهم غير متعوّذين بالقول، ولا متخّذوه جنة كالمنافقين، إذ المنافقون قد قالوا كقولهم إلاّ أنه أخبر عن سرائرهم بضده فقال: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) آل عمران: 761، فأراد سبحانه بأنّ قول هؤلاء قول المؤمنين، وأنّ قولهم إيمان من أعمالهم لأنهم منفردون بالقول دون العمل وفيه أيضاً دليل أنّ القول بالحقّ من الإيمان، وأنه يستحق عليه ثواباً، لأنه من أعمال البرّ بمنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأما أن يكون فيه دليل أنّ القول حسب هو الإيمان كله وأنّ الإيمان يكون قولاً لا يحتاج إلى عمل، فهذا باطل بالأدلة التي قدمنا ذكرها من الآي التي شرط الله تعالى فيها الأعمال، ومن قوله في الكفار: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتُوا بالزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ) التوبة: 5 وأيضاً فإن في نفس هذه الأية بطلان دعوى المرجئة لأن الله تعالى لم يقل فلم يثبهم الله إلاّ بما قالوا جنات وإنما قال عزّ وجلّ: (فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ) المائة: 85، فأخبر أنه أجرهم على قولهم بالحق، كما قال فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا، ثم أحكام ذلك وقيده بقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ وَيُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) البينة: 5، ولكن هؤلاء كما قال الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءِ تَأْويِلهِ) آل عمران: 7، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه من القرآن فهم الذين عنى الله تعالى فاحذروهم؛ وذلك أنّ