فينطرد ثم يدعى فيرمي له عظم فيجيء وزاد غيره، وقال: لو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت، وحدثني شيخ آخر عن أستاذه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح، فتشتت قلبي فدخلت حماماً في جوف المحلة وعنيت على ثياب فاخر فسرقتها ولبستها، ثم لبست مرقعتي فوقها، وخرجت وجعلت أمشي قليلاً قليلاً ليفطن بي فلحقوني فنزعوا مرقعتي واستخرجوا الثياب، وصفعوني وأوجعوني ضرباً، فصرت أعرف في الناحية بلص الحمام فسكنت نفسي، وحدثت عن بعض الصوفية أنّه وقف على رجل يأكل، فمد يده إليه فقال: إن كان ثم شيء لله فقال له: اجلس فكُلْ، فقال: أعطني في كفي، فأعطاه في كفه فقعد في مكانه يأكله، فسأله عن امتناعه من الجلوس معه، فقال: إن حالي مع الله عزّ وجلّ الذل، فكرهت أن أفارق حالي، وكان هذا ربما مديده إلى الهراس فيضع فيها هريسته والعرب تأنف أن يوضع الشيء في أكفها لعزة نفوسها، حتى روينا عن بعض الصحابة من المهاجرين؛ الأول في أول النبوة فقال جعت ثلاثاً لم أطعم شيئاً، فبلغني أن إنساناً يتصدق بزبيب، فسألته فقال: هات كفك فقلت: إني رجل من العرب ولا آخذ في كفي فاجعله لي في شيء، قال فجعله في كيل ثم ناولنيه، فلما فرغته رددته إليه، فكانت فيه عزة نفس، لا جرم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: أنت رجل فيك جاهلية فقال: على ما أنا عليه من كبر السن؟ قال: نعم، وكان قدخاصم رجلاً فأرى عليه تعززاً، وإنما نبهنا ببعض ما ذكرناه له: العقول المستيقظة وحركنا بما بيّنا القلوب الحية، ليحيا من حي عن بينة بذكر أوصاف الصادقين وطرقات المخلصين ليستدل على الكثير باليسير، وقد كان شاهد من شهود بسطام عظيم القدر فيهم لا يفارق مجلس أبي يزيد فقال له يوماً: ياأبا يزيد، أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر، وأقوم الليل لا أنام ولا أجد في قلبي شيئاً من هذا العلم الذي تذكر، وأنا أصدق به وأحبه، فقال له أبو يزيد: لو صمت ثلاثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة، قال: ولم؟ لأنك محجوب بنفسك، قال: أفلهذا دواء؟ قال: نعم، قال: قل لي حتى أعلمه قال: لا تقبل، قال: فاذكره لي، قال: اذهب الساعة إلى المزين واحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك، فقال الرجل: سبحان الله تقول لي مثل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك سبحان الله شرك قال: كيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها قال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره قال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء فقال: لا أطيقه فقال: قد قلت لك إنك لا تقبل، فهذا لما قال سبحان الله كان مشركاً عنده لأنه سبحه برسم النفس، وقد كان أبو يزيد يقول: سبحاني ما أعظم شأني وهو موحد لأنه وحد بأولية بدت.