الكلام فتلا: واصطفيتك به على الناس، فاشكر عليه والنظر فقد خصصت به محمداً، وعن ابن عباس وكعب أنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد فأعطى موسى الكلام وخصّ محمداً بالرؤية، ومما يؤيد هذا القول أنّ الذي آتاه الكلام هو الذي ثبت له فدلّ أنه هو الذي أريد به لأنّ الله تعالى إذا أراد عبداً بشيء ثبته فيه وقواه عليه، وقد ثبت محمداً لما آتاه من الرؤية وقواه لها ومكنه فيه، لأنه أراد بها، ومن وصف مقام المحبوب ما قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: صف لنا أصحابك، فقال: عن أيهم تسألون؟ قالوا: عن سلمان، قال: أدرك علم الأول والآخر، قالوا: فعمار، قال: مليء إيماناً إلى مشاشه، قالوا: حذيفة، قال: صاحب السرّ أعطى علم المنافقين، قالوا: فأخبرنا عن نفسك فقال: إياي أردتم بهذا كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتدأت؛ فهذا مقام محبوب، لأنه إذا سأل سمع منه فاستجيب له، وإذا سكت نظر إليه فعطف عليه، وقد روينا عنه من أحبّ من لا يعرف فإنما يمازح نفسه، أي من لا يعرف صفات حبيبه وأخلاقه وأفعاله وأحكامه فيحبه بعد خبره فيسارع إلى مرضاته ويجانب مكارهه فإنما يمازح نفسه؛ أي يلهو بها ويلعب ليس فيه شيء من حد المحبين ولا حقيقة العارفين إذا لا يأمن انقلاب محبته لتقليب أفعال محبوبه، ولا يأمن تغيير حبه لابتلاء حبيبه واختلاف أحكامه فكأنه كان مازحاً بحبه لا محقّاً به، وفي مثل هذا المقام من جهل المحبين بأفعال المحبوب اغترار عظيم.
ومن المحبة كتمان المحبة إجلالاً للحبيب وهيبة له وتعزيزاً وتعظيماً له وحياء منه؛ وهذا وصف المخصوصين من عقلاء المحبين وهو من الوفاء عند أهل الصفاء، إذ كانت المحبة سرّ المحبوب في غاية القلوب؛ فإظهارها وابتذالها من الخيانة فيها وليس من الأدب ولا الحياء النسبة إليها ولا الإشارة بها، لأنّ في ذلك اشتهاراً فتدخل عليه دقائق الدعوى والاستكبار، وقد قال بعض العارفين: أبعد الناس من الله أكثرهم إشارة به هو الذي يكثر التعريض به في كل شيء ويظهر التزيّن والتصنّع بذكره عند كل أحد هذا ممقوت عند المحبين لله والعلماء به.
دخل ذو النون المصري على بعض إخوانه ممن كان يذكر المحبة فرآه مبتلي ببلاء يجلّ عن الوصف فقال ذو النون، لا يحبه من وجد ألم ضربه، فقال الرجل: لكني أقول لا يحبه من لم يتنعم بضربه، فقال ذو النون: لكني أقول: لا يحبه من شهر نفسه بحبه، فقال الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه؛ وهذا كما قال ذو النون هو من علامة الإخلاص في المحبة إذ كانت أعمال القلوب، فوجود الإشفاق والحذر من إظهارها خشية السلب والاستبدال، وخوف المكر والاستدراج علامة التحقق بها ودفعها عن النفس، وسترها عن أبناء الجنس، وترك التظاهر بها علامة الظفر بها، لأنّ المحبوب غيور، وغيرته على نفسه وعلى ظهور محبته أشد من غيرته على إظهار محبته، وغيرته على إظهارهم لغير أبناء