مقبرة عظيمة يغدو على موتاهم برزقهم من الجنة بكرة وعشية يرون منازلهم من الجنان وعليهم من الغموم والكروب ما لو قسم على أهل البصرة لماتوا أجمعين، قيل: ولِمَ؟ قال: كانوا إذا تغدوا قالوا بأي شيء نتعشى؟ وإذا تعشوا قالوا بأي شيء نتغدى؟ وقال مرة أخرى: لم يكن لهم من التوكّل نصيب، وهذه المقامات من فضائل التوكّل وفوقها ما لا يصلح رسمه في كتاب من مكاشفات الصدّيقين ومشاهدات العارفين، منها أنه أعطاهم كن بإطلاعه إياهم على الاسم فزهدوا في كون كن لأجل كان، توكلاً عليه وحياءً منه أن يعارضوه في قدرته، ويرغبوا عن تقديره، أو يضاهوه في تكوينه، لأن تدبيره عندهم أحكم وأيقن، وهم بالعواقب أعلم، وأخبروهم له أشد إجلالاً وإعظاماً مما نقدر نحن ونعلم، فأما التوكّل عليه في القوت فإنه عندهم فرض التوكّل يستحيون من ذكره مع الوكيل، وكذلك التوكّل عليه في تسليم الأقدار حلوها ومرّها خيرها وشرها من الله حكمة وعدلاً، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس، وكما قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وكذلك قال الله عزّ وجلّ: (وَكُلُّ صغَيرٍ وَكَبير مُسْتَطَرٌ) القمر: 53، فالعلم بهذه الأشياء، وطمأنينة القلب بها، وسكينة العقل عند ورودها، وأن لا يضطرب بالرأي والمعقول، ولا ينازع بالتشبيه والتمثيل، فإن هذا عندهم من فرائض الإيمان، لا يصحّ إيمان عبد حتى يسلم ذلك كله، وليس هذا من التوكّل في شيء، ومنه قول ابن عباس: القدر نظام التوحيد فمن وحِد الله وكذّب بالقدر كان تكذيبه بالقدر نقصاً لتوحيده، فجعل الإيبمان بالأقدار كلّها أنها من الله مشيئة وحكماً بمنزلة الخيط الذي ينتظم عليه الحبّ، وأن التوحيد منتظم فيه، يقول: إذا انقطع الخيط سقط الحبّ، قال: كذلك إذا كذب بالقدر ذهب الإيمان، فالتوكلّ فرض وفضل، ففرضه منوط بالإيمان وهو تسليم الأقدار كلّها للقادر واعتقاد أن جميعها قضاؤه وقدره، ألم ترَ إلى ربك كيف أقسم بنفسه في نفي الإيمان عمّن لم يحكّم الرسول فيما اختلف عليه من حاله فقال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنَونَ حَتى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسِلِّمُوا تَسلْيماً) النساء: 65، فكيف بالحاكم الأوّل والقاضي الأجلّ؟ فأما فضل التوكّل فإنه يكون عن مشاهدة الوكيل فإنه في مقام المعرفة ينظر عين اليقين، كما قال العبد الصالح: فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون، فظهرت منه قوّة عظيمة بقوي، وأخبر عن عزيز بعزّ فكأنه قيل: ولمَ ذاك وأنت بشر مثلنا ضعيف؟ فقال: إني توكّلت على الله ربي وربكم، فكأنه سئل عن تفسير توكّله كيف سببه فأخبر بمشاهدة يد الوكيل آخذة