الخلق، والنظر إلى علم الخالق الذي سبق، ثم التوكّل في الصبر على حسن المعاملة، وترك الطلب للمعارضة حياء من الله وإجلالاً له وتخوّفاً منه وحبَّاًِ له، فقد وصفهم بذلك ظاهراً وباطناً، فالظاهر قوله تعالى: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلينَ) (الذَّينَ صَبَرُوا وَعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) العنكبوت: 58 - 59، فلما علموا صبروا على علمهم، ثم توكّلوا عليه في جميع ذلك، فأنعم أجرهم وأجزل ذخرهم، والباطن فيما أخبر عنهم إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً فقطعهم الخوف عن الطلب، ففي قوله: منكم، وجه حسن غريب، وهو باطن الآية قد يكون بمعنى لا نريد بدلاً منكم، كقوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ) الزخرف: 60 ليس أنه جعل من البشر ومنكم ملائكة، ولكن المعنى بدلاً، هذا أحد الوجهين في الآية وهو أعلاهما، والوجه الظاهر أن يكون الكاف والميم أسماء المطعمين أي لا نريد من عندكم جزاء أي مكافأة ولا شكوراً أي حسن ثناء، فلما لم يطلبوا العوض من أجلهم ولا المكافأة من عندهم وقالوا: إنّا نخاف من ربّنا، جزاهم أفضل الجزء، وأحسن لهم غاية العطاء فقال تعالى: (وَسَقَاْهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاْباً طَهُوراً) (إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) الدهر: 21 - 22، إذ لم يطلبوا جزاءً ولا شكوراً جعل جزاءهم شراباً طهوراً، وجعل سعيهم لديه مشكوراً، ثم التوكّل عليه في تسليم الحكم والرضا به، ومنه قول يعقوب عليه السلام حين سلم الحكم توكلاً على الوكيل الحاكم: إن الحكم إلا للهِ، عليه توكّلت، لأن العبد إذا كان مريد المراد نفسه من الأشياء قد لا يوجد في كل شيء إرادته، ثم هو على يقين من إرادة مولاه لكلّ شيء، وأن كل شيء مراد لوكيله فينبغي أن يريد ما يريد مولاه إذا لم يتفق له مايريد بل ينبغي أن يكون مراد مولاه أحبّ إليه وأبر عنده لأن ما أراده مولاه مما لاعقوبة على العبد فيه، ولا مسخطة لمولاه فإنه محبوب لله مختار له، فلتكن محبة الله عزّ وجلّ مقدمة لديه على محبته هو واختياره، إذ لله عاقبة الأمور وقد شرّف المتقين ونزّههم عن أمور العاجلة الدنية بقوله عزّ وجلّ: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ) القصص: 83، وكما روي في أخبار موسى عليه السلام إذا لم يكن ما تريد فرد ما يكون، فإن أبيت إلا ما تريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد.
وروي عن الحسن: وددت أن أهل البصرة في عيالي وأن حبة بدينار، وهذا من نهاية التوكّل، وليس ذلك إلا في تسليم الأحكام والرضا بها كيف جرت بهم، لأن هذا كلام قد جاوز المعقول، وقد كان وهيب بن الورد المكي يقول: لو كانت السماء نحاساً، والأرض رصاصاً، ثم اهتممت برزقي لظننت أني مشرك، ويقال: من اهتمّ برزق غد وعنده اليوم قوت غد فهي خطيئة تكتب عليه، وقال سفيان: الصائم إذا اهتم في أوّل النهار بعشائه كتب عليه خطيئة، وكان سهل يقول: إن ذلك ينقص من صومه، وقال أعرف في البصرة