قلتم نحن أكبر بطوناً من الطير فانظروا إلى الأنعام كيف قيّض الله لها هذا الخلق، ويقال: لا يدّخر من الدواب إلا ثلاثة: النملة والفأرة وابن آدم، وقال أبو يعقوب السوسي: المتوكّلون على الله تجري أرزاقهم بعلم الله واختياره على يد خصوص عباده بلا شغل ولا تعب، وغيرهم مكدودون مشغولون، وقال أيضاً: المتوكّل إذا رأى السبب أو ذم أو مدح فهو مّدعٍِ لا يصحّ له التوكّل، وأوّل التوكّل ترك الاختيار والمتوكّل على صحة قد رفع أذاه عن الخلق، لا يشكو ما به إليهم، ولا يذمّ أحداً منهم لأنه يرى المنع والعطاء من واحد، فقد شغله عمّا سواه، وقيل لسهل: ما أدنى التوكّل؟ قال: ترك الأماني، وأوسطه ترك الاختيار، قيل: فما أعلاه؟ قال: لا يعرفه إلا من توسّط التوكّل وترك الاختيار، أعطى فذكر كلاماً طويلاً.
وقال بعض هذه الطائفة: العبيد كلّهم يأكلون أرزاقهم من المولى، ثم يفترقون في المشاهدات، فمنهم من يأكل رزقه بذلّ، ومنهم من يأكل رزقه بامتهان، ومنهم من يأكل رزقه بانتظار، ومنهم من يأكل رزقه بعزّ لا مهنة ولا انتظار ولا ذلّة، فأما الذي يأكلون أرزاقهم بذلّ، فالسؤال يشهدون أيد الخلق فيذلّون لهم، والذين يأكلون بامتهان، فالصناع يأكل أحدهم رزقه بمهنة وكره، والذين يأكلون أرزاقهم بانتظار، فالتجار ينتظر أحدهم نفاق سلعته فهو متعوب القلب معذّب بانتظاره، والذين يأكلون أرزاقهم بعزّ من غير مهنة ولا انتظار ولا ذل فالصوفية، يشهدون العزيز فيأخذون قسمهم من يده بعزة، فأمّا الذين يأكلون من أرباب السلاطين فباعوا أرواحهم فتلك قسمة خاسرة وقعوا في الذلّ الواضح.
وسئل بعض العلماء عن معنى الخبر المأثور: الخلق عيال الله فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله فقال: هذا مخصوص وعيال الله خاصته، قيل: كيف؟ قال: لأن الناس أربعة أقسام: تجار وتجارة وصناع وزراعة، فمن لم يكن منهم فهو من عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لهؤلاء، وهذا كما قال: لأن الله سبحانه وتعالى أوجب الحقوق وفرض الزكاة في الأموال لهؤلاء لأنه جعل من عياله من لا تجارة له ولا صنعة فجعل معاشهم على التجّار والصنّاع، ألا ترى أن الزكاة لا تجوز على تاجر ولا صانع لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لقويّ مكتسب، فأقام الاكتساب مقام الغنيّ.
وقال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ) الحجر20 فكان من تدبّر الخطاب أن من ليسوا له برازقين هو من ليس له فيها معيشة في الأرض، وقال عامر بن عبد الله: قرأت ثلاث آيات من كتاب الله عزّ وجلّ استعنت بهنّ على ما أنا فيه فاستعنت قوله تعالى: (وَإنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هو وَإنْ يُرِدْكَ بَخَيْرٍ فَلا رَادَّ