كلما استعظمه العبد صغر عند الله تعالى ويقال: إن استصغار الذنب كبيرة، كما جاء في الخبر: المؤمن الذي يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه والمنافق الذي يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه فأطاره، وقد روينا في خبر مرسل: ليتقّ أحدكم أن يؤخذ عند أدنى ذنوبه في نفسه.
وقال بعضهم: الذنب الذي لا يغفر قول العبد: ليت كل شيء عملته مثل هذا فهذا كما قال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت.
وقد حدثنا عن الله تعالى أنه أوحى إلى بعض أوليائه: لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظمة مهديها ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها فإنما عظمت الذنوب من تعظيم المواجه بها وكبرت في القلوب لمشاهدة ذي الكبرياء ومخالفة أمره إليها فلم يصغر ذنب عند ذلك وكانت الصغائر عند الخائفين كبائر وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى: (ذلك ومَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ الله فَهُو خيْرٌ لَهُ) (وَمَنْ يُعَظِّمْ شعائِرَ الله فإنَّها مِن تَقْوى القُلوُبِ) الحج: 30 - 32 قيل: الحرمات تعظم في قلبه فلا ينتهكها، ومن هذا قول الصحابة للتابعين: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدّها في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات ليسوا يعنون أن الكبائر التي كانت على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارت بعده صغائر ولكن كانوا يستعظمون الصغائر لعظمة الله تعالى في قلوبهم لعظيم نور الإيمان، ولم يكن ذلك في قلوب من بعدهم، وأوحى الله تعالى إلى بعض أوليائه: كم من ذنب رأيته منك قد أهلكت بدونه أمة من الأمم.
وقد روينا عن أبان بن إسماعيل عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه أهلك الله تعالى أمة من الأمم كانوا يعبثون بذكورهم فأما نسيانه الذنوب وذكرها فقد اختلف قول العارفين في ذلك فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك، وهذا طريقان لطائفتين وحالان لأهل مقامين فأما ذكر الذنوب فطريق المريدين وحال الخائفين يستخرج منهم بتذكرها الحزن الدائم والخوف اللازم، وأما نسيان الذنوب شغلاً عنها بالأذكار وما يستقبل من مزيد الأعمال فطريق العارفين وحال المحبين ووجهة هؤلاء شهادة التوحيد وهي مقام في التعريف ووجهة الأولين مشاهدة التوقيف والتحديد وهي مقام في التعريف، ففي أيّ المقامين أقيم عبد قام بشهادة وجهته وعمل بحكم حالته ومقام شهادة التوحيد أفضل عند العارفين من مقام مشاهدة التعريف وإن كانت هذه أوسع وأكثر إلا أنها في أصحاب اليمين وفي عموم المقربين، وشهادة التوحيد أضيق وأقل وأهلها أعلى وأفضل وهي في المقرّبين وخصوص العارفين وقد يعترض المريد بقصة دواد عليه السلام في تذكره ونوحه على خطيئة فإن الأنبياء لا يقاس عليهم لمجاوزتهم حدود من دونهم وقد يقلبون في أحوال المريدين ويسلك بهم سبيل المتعلمين وذلك لأجل الأمة ليكون طريقاً للعالمين،