وقال أبو سليمان الداراني: إذا طلب الرجل الحديث أو تزوّج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا، وأما علم الإيمان والتوحيد وعلم المعرفة واليقين فهو مع كل مؤمن موقن حسن الإسلام وهو مقامه من الله وحاله بين يدي الله ونصيبه منه في درجات الجنة، به يكون من المقربين عنده والعلم بالله تعالى والإيمان به قرينان لا يفترقان، فالعلم بالله تعالى هو ميزان الإيمان به يستبين المزيد من النقصان لأن العلم ظاهر الإيمان يكشفه ويظهره والإيمان باطن العلم يهيجه ويشعله، فالإيمان مدد العلم وبصره والعلم قوّة الإيمان ولسانه وضعف الإيمان وقوّته ومزيده ونقصه بمزيدالعلم بالله عزّ وجلّ ونقصه وقوّته وضعفه، وفي وصية لقمان الحكيم لابنه: يابني كمالايصلح الزرع إلا بالماء والتراب كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل ومثل المشاهدة من المعرفة من اليقين من الإيمان كمثل النشاء من الدقيق من السويق من الحنطة، والحنطة تجمع ذلك كله كذلك الإيمان أصل ذلك والمشاهدة أعلى فروعه كالحنطة أصل هذه المعاني والنشاء أعلى فروعها فهذه المقامات موجودة في أنوار الإيمان يمدها علم اليقين، ثم إن المعرفة على مقامين: معرفة سمع ومعرفة عيان، فمعرفة السمع في الإسلام وهو أنهم سمعوا به فعرفوه، وهذا هو التصديق من الإيمان ومعرفة العيان في المشاهدة وهو عين اليقين والمشاهدة أيضاً على مقامين: مشاهدة الاستدلال ومشاهدة الدليل عنها، فمشاهدة الاستدلال قبل المعرفة وهذه معرفة الخبر وهو في السمع لسانها القول والواجد بها واجد يعلم علم اليقين من قوله تعالى: (سَبَإٍ بَنَبَإٍ يَقينٍ) (إِنّي وَجَدْتُ) النمل: 22 - 23، فهذا العلم قبل الوجدوهو علم السمع وقد يكون سببه التعليم ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا اليقين أي جالسوا الموقنين واسمعوا منهم علم اليقين لأنهم علماؤه وأما مشاهدة الدليل فهي بعد المعرفة التي هي العيان وهو اليقين لسانه الوجد والواجد بها واجد قرب وبعد هذا الوجد علم من عين اليقين وهذا يتولاه الله تعالى بنوره على يده بقدرته، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فوجدت بردها فعلمت فهذا التعليم بعد الوجد من عين اليقين باليقين وهذا من أعمال القلوب، وهؤلاء علماء الآخرة وأهل الملكوت وأرباب القلوب وهم المقربون من أصحاب اليمين وعلم الظاهر من علم الملك وهو من أعمال اللسان والعلماء به موصوفون بالدنيا وصالحوهم أصحاب اليمين وجاء رجل إلى معاذ بن جبل فقال: أخبرني عن رجلين، أحدهما مجتهد في العبادة كثير العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتريه الشك في أموره فقال معاذ: ليحبطن شكّه أعماله، قال: فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب فسكت معاذ فقال الرجل: والله لئن أحبط شكّ الأوّل أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها قال: فأخذ معاذ بيده وقام قائماً ثم قال: ما رأيت الذي هو أفقه من هذا وقد