الفصل التاسع عشر
كتاب الجهر بالقرآن
روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: فضل قراءة السرّ على قراءة العلانية كفضل صدقة السرّ على صدقة العلانية، وفي لفظ آخر الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر به كالمسر بالصدقة، وفي الخير العام يفضل عمل السرّ على عمل العلانية بسبعين ضعفاً، وفي مثله من العموم خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي، وفي الخبر لا يجهر بعضكم على بعض في القراءة بين المغرب والعشاء، وسمع سعيد بن المسيب ذات ليلة في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن عبد العزيز يجهر بالقرآن في صلاته وكان حسن الصوت فقال لغلامه برد اذهب إلى هذا المصلي فمره أن يخفض من صوته، فقال الغلام: إن المسجد ليس لنا وإن للرجل فيه نصيباً فرفع سعيد صوته فقال: يا أيها المصلي إن كنت تريد الله عزَّ وجلَّ بصلاتك فاخفض صوتك وإن كنت تريد الناس فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، قال: فسكت عمر وخفف ركعته فلما سلم أخذ نعليه وانصرف، وهو يومئذٍ أمير المدينة، وعلى ذلك فقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع جماعة من أصحابه يجهرون بالقراءة في صلاة الليل فيصّوب ذلك لهم ويسمع إليهم وقد أمر بالجهر.
فيما روي عنه إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليجهر بقراءته فإن الملائكة وعمار الدار يستمعون إلى قراءته ويصلون بصلاته ومرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ثلاثة من أصحابه في الليل مختلفي الأحوال؛ منهم من كان يخافت وهو أبو بكر رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقال: إن الذي أناجيه هو يسمعني ومنهم من كان يجهر وهو عمر رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقال: أوقظ الوسنان وأزجر الشيطان، ومنهم من كان يقرأ آياً من هذه السورة ومن هذه السورة وهو بلال فسأله عن ذلك فقال: أخلط الطيب بالطيب فقال: كلكم قد أحسن وأصاب فنقول: والله أعلم إن المخافتة بالقراءة أفضل إذا لم تكن للعبد نية في الجهر أو كان ذاهباً عن المهمة والمعاملة بذلك لأنه أقرب إلى السلامة وأبعد من دخول الآفة وإن الجهر أفضل لمن كان له نية في الجهر ومعاملته مولاه به لأنه قد قام بسنة قراءة الليل لأن المخافت نفعه لنفسه والجهر نفعه له ولغيره وخير الناس من ينفع الناس