"كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به" ومثله عن وكيع بن الجراح، وعن ابن مسعود: "ليس العلم عن كثرة الحديث إنما العلم خشية الله" والآثار في هذا النحو كثيرة، وبما ذكر يتبين الجواب عن الإشكال الثاني فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة والفقه فيما رووا أمر آخر أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب، والعياذ بالله على أن المثابرة على طلب العلم والتفقه فيه وعدم اجتزاء باليسير منه يجر إلى العمل به ويلجئ إليه كما تقدم بيانه هو معنى قول الحسن: "كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخره"، وعن معمر أنه قال: "كان يقال من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يصيره إلى الله"، وعن حبيب بن أبي ثابت: "طلبنا هذا الأمر، وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد" وعن الثوري قال: "كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخره" وهو معنى قوله في كلام آخر: "كنت أغبط الرجل يجتمع حوله، ويكتب عنه فلما ابتليت به وددت أني نجوت منه كفافا لا علي ولا لي" وعن أبي الوليد الطيالسي قال: "سمعت ابن عيننة منذ أكثر من ستين سنة يقول: طلبنا هذا الحديث لغير الله فأعقبنا الله ما ترون"، وقال الحسن: "لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده" فهذا أيضًا مما يدل على صحة ما تقدم.
ثم قال الشاطبي بعد ذلك: "ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة وما هي، والقول في ذلك على الاختصار أنها أمر باطن، وهو الذي عبر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود، وهو راجع إلى معنى الآية. وعنه عبر في الحديث في أول ما يرفع من العلم الخشوع1، وقال مالك: "ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور يجعله الله في القلوب" وقال أيضًا: "الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل، ولكن عليه علامة ظاهرة وهو التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة وبالله التوفيق". ا. هـ.