مغلوبة مدفوعة بغيرها.
قال: وهذا القول قول بين القولين من التقصير والغلو فقصر من أنكر وجود الله تعالى بدلالات العقول وحدها وغال من التزم بالاستدلال بالوحى ولم يعذر بغلبة الهوى وهو من الله تعالى وقرب من الإنصاف من قال: إن الله تعالى يعرف بدلالات العقول وحدها ولكن لا يجب فعل الاستدلال إلا بشرع والحق بالشرع ونفس العقل لا يميز بين امرأة عقلت وحاضت لتسع سنين وصبى عقل وبلغ أربع عشرة سنة ونصف بل حال الصبى أكمل من حال البالغة بحيضها بالتسع سنين.
ببينة: أن العاقل لا يرى بناء إلا عرف لها بانيا ولا يعرف نقشا إلا عرف له ناقشا ولا يعرف صورة إلا عرف لها مصورا فكيف يعذر بعد رؤية الصورة في جهله بمصورها وإذا لم يعذر فلا بد أن تقع المعرفة بفاعل الصورة فقد تنبه بعقله وكيف ينكر هذا والله تعالى يقول حاكيا عن الكفرة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وكذلك لا ترى أحدا من الكفار إلا وهو يخبر عن الصانع إنما كفرهم كان لوصفهم الله تعالى بما لا يليق به من الولد والشريك وكان كفر بإنكارهم البعث بعد الموت للجزاء وكلامنا في نفس الجاهل للصانع عن ذكره وكيف يعذر والجهل جاء من استخفافه بالحجة بعدما لاحت له بلا تمثل فالبناء شاهد على البانى بلا تمثل في العقول والاستخفاف بالحجة فوق الغفلة عن سكر يقع بالخمر وأنه لم يعذر فهذا أولى بخلاف أول حالة العقل لأنه لأول حالة لا يتنبه لما يتنبه له الكبير ألا بجهد وحرج كالنائم يتنبه فلا يدرك لأول مرة ما يدركه بعد مدة فانتبه قام أن يعذره الله تعالى رحمة ثم قدر مدة العذر ولا يعرف ذلك بالعقل.
قال: والدليل على أن التنبيه لا يقع لأول العقل قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] ولم يذكر العقل وقال: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] وقيل: إنه السبب.
وقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الروم: 8] ولم يذكر الوحى بل عايبهم على ترك التفكر.
وقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أخبره أنه يريهم الآيات حتى يتبين لهم أنه الحق فثبت أن اللبس لا يقع إلا بالاستخفاف بالحجة كما يكون بعد دعوة الرسل.