وَقد منح الله هَذَا الرجل من صدق الْفَهم ونفوذ الذِّهْن مَا لم يكن لغيره من أذكياء الْعَالم. هَذَا مَعَ مَا وهب لَهُ من حفظ السّنة المطهرة والتمييز بَين صحيحها وسقيمها، وَاخْتِيَار مَا اخْتَارَهُ فِي كِتَابه من أصح الصَّحِيح حَتَّى سَمَّاهُ كثير من أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن، أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث، وَجعل الله سُبْحَانَهُ كِتَابه هَذَا ارْفَعْ مجاميع كتب السّنة المطهرة وأعلاها وَأَكْرمهَا عِنْد جمع الطوائف الإسلامية، وأجلها عِنْد كل أهل هَذِه الْملَّة. وصاروا فِي جَمِيع الديار إِذا دهمهم عَدو أَو أصيبوا بجدب يفزعون إِلَى قِرَاءَته فِي الْمَسَاجِد والتوسل إِلَى الله بالعكوف على قِرَاءَته لما جربوه قرنا بعد قرن وعصراً بعد عصر، من حُصُول النَّصْر وَالظفر على الْأَعْدَاء بالتوسل بِهِ، واستجلاب غيث السَّمَاء، واستدفاع كل الشرور بذلك، وَصَارَ هَذَا لديهم من أعظم الْوَسَائِل إِلَى الله سُبْحَانَهُ، وَهَذِه مزية عَظِيمَة، ومنقبة كَرِيمَة، وَلم يكن هَذَا لغير هَذَا الْكتاب من حسن الانتقاء، وسلامة مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من قيل وَقَالَ. وَمن تعرض لشَيْء من ذَلِك أرْغم الله أَنفه بِمَا يرد عَلَيْهِ أهل الإتقان من الردود الَّتِي تدع اعتراضه هباء منثورا، وهشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاح.
وَقد كَانَ هَذَا الرجل فِي الْعِبَادَة على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا، والزهد فِي الدُّنْيَا بمزلة علية ورتبة رفيعة، وَتمّ الله لَهُ ذَلِك بِمَا امتحن بِهِ فِي آخر أَيَّامه من أَعدَاء الْعلمَاء العاملين، والمتجرئين على عباد الله الصَّالِحين حَتَّى مَاتَ كمداً، رَحمَه الله ووفر عِنْده جزاءه فكوفئ فِي كِتَابه هَذَا بِهَذَا الْحَظ الْعَظِيم فِي الدُّنْيَا، ليتوفر فِي الْأُخْرَى بِمَا يصل إِلَيْهِ من الثَّوَاب الْحَاصِل من انْتِفَاع النَّاس بِهِ، فَإِن الْعلم الَّذِي ينْتَفع بِهِ هُوَ إِحْدَى الثَّلَاث الَّتِي يَدُوم للْمَيت ثَوَابهَا بعد انْقِطَاع كل شَيْء عَنهُ، كَمَا صَحَّ الحَدِيث بذلك الَّذِي أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: