الضيافة أن تستقبل ضيفك وتكرمه ولا تذكر له شيئاً يحرجه، فإن المضيف إذا تعمد إحراج الضيف فإنه أحياناً يعاقب بنقيض قصده، ولا أذكر هنا حديثاً إنما أذكر وقائع وإن كانت طريفة عجيبة.
مرة دعا سليمان بن عبد الملك -وكان أمير المؤمنين- رجلاً أعرابياً على الغداء، فأتوا له بكبش مشوي ووضعوه على المائدة، والأعراب أناس يغلب عليهم الجلافة بخلاف أهل الحضر وأهل المدنية، فأول ما وضع الجدي أمام الأعرابي أسرع يأكل فيه بحرقة وغيظ ومزقه وهو يأكل بنهم شديد.
فقال له سليمان مداعباً: مالك تأكله بحرق -أي: بغيظ- كأن أمه نطحتك؟ فقال له: ومالك مشفق عليه كأن أمه أرضعتك؟ وهو يأكل.
ومرة دعا رجلاً أعرابياً -وكانوا كرماء ولم يكن أمير المؤمنين في وادٍ والرعية في وادٍ آخر: قال: (يا أعرابي! ألا تتغدى معي) ؟ قال: (حباً وكرامة، أكل الملوك لا نحلم به) .
وبينما الأعرابي يأكل إذ قال له سليمان: يا أعرابي في لقمتك شعرة أزلها -يقول له عن غير قصد: اللقمة فيها شعرة- نحها حتى لا تأكلها.
فوقف الأعرابي مزمجراً وقال: إنك لتراقبني مراقبة من يرى الشعرة في اللقمة لا آكلتك أبداً، كأنه رجل يطمع الناس جميعاً في استضافته، ثم خرج من عنده وهو يقول: للموت خير من ضيافة باخل يراقب عن عمد طعام أكيله أي رجل إذا استضفته لا تتكلم في مسائل الأكل والشرب بل أكدِّ عليه، تقول له: زد قليلاً، كُلْ، فهذا من كرم الضيافة، هذا هو القدر الزائد على مجرد الاستطعام.
قال أعرابي لرجل: (أنا ضيفك اليوم) .
قال: (مرحباً) فلما دخل قال لامرأته: أتاني ضيف ثقيل اذبحي لنا دجاجة واحدة، الرجل وامرأته وولدان وبنتان والضيف على دجاجة، قال الرجل: سأحرجه، أعطيه الدجاجة وأقول له: قسم علينا، فبالتالي لو أعطى كل واحد نصيبه فلن يجد لنفسه قسماً.
فلما وضعت الدجاجة وقعد الجميع قال الرجل: قسم علينا أيها الأعرابي.
قال: وهذا يجوز؟ بل أنت رب البيت.
قال: لا والله لابد أن تقسم علينا، وعقد في نيته ألا يأكل ضيفه، وهنا يعاقب بنقيض قصده، فأمسك الأعرابي فقطع رأس الدجاجة وأعطاها الرجل، وقال: (الرأس للرئيس) وقطع عجز الدجاجة وأعطاها للمرأة، وقال: (العجز للعجوز) وقطع الجناحين وأعطاهما للولدين، ثم قال: (الولدان عندنا جناحان) وقطع الرجلين وأعطاهما للبنتين، ثم قال: (والزور للزائر) أي: بقية الدجاجة للزائر؛ لأن الدجاجة كلها ماعدا الأطراف عند العرب تسمى زوراً، قال: الزور للزائر.
فالضيافة من كرم الشرقيين، ولا أقول: الشرقيين وآسف من هذه العبارة، بل من كرم المسلمين؛ لأن دينهم يحض على ذلك، فإن أتاك ضيف أكرمه وأحسن نزله.
وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم بينما هم جلوس: (سيطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع رجل تنطف لحيته ماءً -متوضئ- وفي اليوم التالي قال نفس العبارة، وفي اليوم الثالث قال نفس العبارة، ويطلع نفس الرجل، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: لأرين هذا الرجل وكيف وصل أن يكون من أهل الجنة.
فقال له: يا فلان! إنه حدث بيني وبين أبي شحناء فأقسمت ألا أبيت في البيت ثلاثاً، فهلا استضفتني؟ قال: نعم.
فاستضافه، إلى آخر الحديث، والشاهد أنه قال: (هلا استضفتني ثلاثاً) الذي هو حق الضيف على مضيفه أن يستقبله ثلاثة أيام.