العلم اللدني عند العلماء من أصحاب هذه الملة أن يكون الرجل ورعاً تقياً لا يلابس الشبهات فضلاً عن المحرمات، وأن يخلص قلبه كله لربه، وألا يفتقده ربه حيث أمره ولا يجده حيث نهاه، إذاً: يكون من طراز الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان.
فهذا العلم اللدني هو من باب قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] كأن تعرض عليك مسألة يلهمك الله رشدك ويلهمك صوابك فلا تنطق إلا حقاً، ولا تقول إلا ما يمليه عليك سبحانه وتعالى عن طريق الإلهام، وإليه أيضاً الإشارة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، قيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟) .
الصوفية ينتسبون إلى آل البيت إلا أننا نحب آل البيت أكثر منهم، ونعرف قدر آل البيت أكثر منهم، لأننا نتبع آل البيت في سلوكهم، بينما هم لا يتبعون آل البيت في شيء، فمثلاً: تعظيمهم للحسين بن علي رضي الله عنه؟ أنه يذهب يشرك بالله ويمرغ خديه عند القبر ويقول: يا حسين أعطني، يا حسين اشفني مدد، قل: يا رب أطلب منك مدداً، أين ربك ورب الحسين؟ لو أتيت هذا الرجل فنظرت إلى بيته وإلى سلوكه لوجدته مارقاً، ما اقتدى بـ الحسين رضي الله عنه في تقواه وورعه وسلوكه أبداً.
ولو طلبت منه أن يقص عليك سيرة الحسين كيف صلاته؟ وكيف بكاؤه في الليل؟ وكيف مناجاته ربه؟ لوجدته لا يعرف شيئاً، يأتي الرجل في مولد الحسين، يأتي الرجل من القرية ليبيع بعض مواشيه ومعه زوجته وسجائر، فيجلس هو وامرأته ثلاثة أو أربعة أيام على الرصيف، فتنام المرأة، وتنكشف عورتها ويظهر فخذها، وكل هذا لا يضر عندهم، وكل هذا في حب الحسين وهؤلاء هم الذين ينتسبون لآل البيت.
وحاشا آل البيت، بل هم أطهر الناس، ولا ينتسب لهم إلا محب يعمل بعملهم ويقتدي بهديهم، وقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة في آخر حياته: الله الله في آل بيتي اتقوا الله فيهم، وجعل من علامة حبك له صلى الله عليه وسلم أن تحب آل البيت، فنحن نحب آل البيت بحبنا للنبي صلى الله عليه وسلم.
فـ علي بن أبي طالب وهو عمدة آل البيت بعد النبي عليه الصلاة والسلام يُسأل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم دون الناس؟) قال: (لا.
ما خصنا إلا بهذه الصحيفة، ففتحوا فإذا فيها الجراحات -أي: جزء من الحدود وهو حكم شرعي عادل لم يكن عند علي وحده إنما كان عند غيره من الصحابة- قال: أو فهماً يؤتيه الله عز وجل لرجل في كتابه) فقط.
وقوله: (أو فهماً يؤتيه الله عز وجل بشراً في كتابه) كان منهم علي، إذا عرضت عليه المسألة ينظر فيها، فيلهمه الله عز وجل رشده ويختصه بصواب هذه المسألة، في حين أن كثيراً من الناس لم يصل إلى الصواب فيها.
وهذا من باب: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] .
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم عنه: (إنه إن يكن فيكم ملهمون فـ عمر) هذا هو العلم اللدني الملهم من السماء، (إن يكن منكم ملهمون -وفي رواية- إن يكن منكم محدثون فعمر) فكان عمر رضي الله عنه يقول شيئاً للنبي عليه الصلاة والسلام ثم ينزل القرآن يوافق رأي عمر.
وفي ذات مرة قال عمر: (يا رسول الله، حجب نساءك) ولا يتصور من قوله: (حجب نساءك) أن أمهات المؤمنين كن يخرجن كاشفات شعورهن، إنما (حجب نساءك) أي: أحجبهن عن الناس ألبتة فلا يراهن الناس ولا يرين الناس، هذا هو المقصود بالحجاب، أي: أن المرأة لا تخرج من بيتها، فلا زال النبي عليه الصلاة والسلام يتأنى؛ لأن أي شيء يتعلق بالشرع لابد فيه من الوحي، قال عز وجل في مدح نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] أي: عن هوى نفسه، لو رأى شيئاً استهواه واستحسنه لا ينطق به حتى ينزل من الله فيه وحيٌ، يقول له: افعل أو لا تفعل.
فلذا كان لا يجيب عمر، ولا يُظنَّ أن عمر أتقى من النبي، أو أن نظرته أدق من نظرة النبي، يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤية عمر واستحسنها، لكنه لا ينطق عن هوى نفسه.
فكل مسألة يقول عمر: يا رسول الله، افعل كذا، كان ينزل الوحي يؤيد عمر، فهذا هو العلم اللدني، وهو يحتاج إلى ورع وتقوى وإخبات وتذلل إلى أن يكون الرجل عبداً لله عز وجل، وأما العلم اللدني عند الصوفية فهو أن يكون مارقاً من عبوديته لربه.