ولم يكن نابليون هو أقوى قوة في عصره وأكثرها دوما، فقد كانت الثورة الصناعية أقوى منه، فقد جعلت بريطانيا العظمى من الثراء بحيث أمدّت وموّلت كي تُسقط نابليون، وبعدها جعلت هذه الثورة الصناعية من أوربا قوّة فعّالة بحيث سيطرت على الكرة الأرضية ثم إن هذه الثورة الصناعية استطاعت بعد ذلك أن تجعل من أمريكا قارة ذات موارد بما يكفي لإنقاذ أوربا وتعويض ما نقص فيها وما كان يلي الثورة الصناعية في القوة هو الثورة الفرنسية التي بدأت في فرنسا 1789 والتي هي بدورها أقوى من نابليون (ابن الثورة) بكثير وأبقى منه بمراحل، فهذه الثورة الفرنسية (1789) نشرت تأثيراتها في كل أنحاء أوربا إذ ألغت الروابط الإقطاعية والرسوم الإقطاعية وأحلّت محلها الحقوق الفردية، وجعلت الجياع (المتعطشين) على مستوى العالم يجدون فيها (أي في الثورة الفرنسية أوضح صوت معبرّ عنهم: الجياع للحرية - حرية الحركة والنمو والعمل الاقتصادي والعبادة والفكر والصحافة، والجياع للمساواة - في الفرص المتاحة والتعليم والصحة والعدالة القانونية·
هؤلاء الجياع (المتعطشون) المعادون - لما هو قائم أخذوا دورهم في السيطرة على تاريخ الإنسان المعاصر: لقد أصبح التعطش للحرية، والضرر الناتج عن المساواة موضوعْين أثيرْين تمّ تناولهما بشكل مستمر في أوربا وأمريكا في القرن التاسع عشر، وأصبح التعطّش للمساواة - على حساب الحرية - جانبا مهيمنا على التاريخ الأوربي والأمريكي في القرن العشرين· فالثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية كما فسّرها جيفرسون Jefferson حمَّلت الحرية فوق طاقتها وأفرطت فيها· حَّررت الفرد إلى حد إفساد النظام، وحَّررت القدرات المتفوقة إلى حد نشوء أزمات متكررة بسبب تكدّس الثروة· وقد قدَّم نابليون النظام الذي قمع الفوضى السياسية والاقتصادية والأخلاقية في فرنسا في فترة ما بعد الثورة· وليس هناك نظام يكبح هذه الفوضى في زماننا·