وعندما بالغ نابليون في فرض النظام بعد سلام تيلسيت Tilsit (1807) وأخضع أمور الدولة لإرادة السلطة (القوة) فإنه ساعتها لم يعد يمثل روح العصر· لقد انضم وقتها إلى ملكيات أوربا المطلقة وراح يقلّدها، تلك الملكيات التي كان هو نفسه قد حاربها· لقد حسد الأرستقراطية وحاول إغراءها، تلك الأرستقراطية التي احتقرته وتآمرت لتدميره· لقد أصبح قوة رجعية عندما راحت فرنسا من جديد تَتُوق للحرية وتطالب بالديمقراطية·
ومن سخرية التاريخ أنه بينما كان نابليون في أثناء حياته يعمل على تجسيد حاجة بلاده للانضباط والنظام بعد فترة من الحرية المنفلتة، فإنه أصبح مرة أخرى بعد مماته ابنا للثورة وعدوا للحكم المطلق والأرستقراطية ورمزا للثوار والمتحدث المتمكن المنادي بالحرية (وكان هذا بفضل إعادة صياغة تاريخ حياته، تلك الحياة التي اتخذت طابعا أسطوريا) · في سنة 1799 كانت الظروف وطبيعته قد جعلتاه دكتاتورا يكاد يكون أكثر دكتاتورية من التاريخ، وبعد سنة 1815 وسجنه في سانت هيلينا أعاد الخيال العام تشكيله، وكانت إعادة التشكيل هذه أوضح بعد موته 1821، ليصبح طوال نصف قرن أكثر الدعاة إلى الحرية · لقد ترك لنا عدد قليل من الرجَال العظماء بعد موتهم ما يفيدنا بما كانوا عليه في أثناء حياتهم·
أكان نابليون مثير حرب؟ أكان مسئولاً عن هذه السلسلة المتعاقبة من الحروب الحاشدة، وعن هؤلاء الملايين من الشباب الذين قضوا نَحْبهم ولم يستفيدوا شيئا سوى نشوة المعركة وخُدارها، وملايين النسوة اللائي لم يعد إليهن ذووهن؟ فلنسمعه (أي نسمع نابليون) · لقد اعترف أنه كان يسعد بالقيادة العسكرية (بكونه جنرال) لأنه كان قد تدرب على الفن العسكري ومارسه ممارسة جيدة، لكن كيف كان غالبا ما يتطلّع للخلاص من الحرب لممارسة أحد فنونه الأخرى - الإدارة تحويل الفوضى (الهيولى) السائدة في الحياة إلى نظام فعّال بتأسيس بنية قانونية قوية وقاعدة أخلاقية متينة! كم مرة عرض السلام فووجه بالتسفيه والاحتقار والرفض!